بوسع بحيرات ندى متقطّر من ورد صباحيٍّ، كانت الحدقتان! نظرة هادئة، طويلة، عميقة، تهفهف كأجنحة فراشات، يناديها الضّوءُ فتذهب على، وإلى أمواجه عبر المدى! لا يريد القلب أن يصدّق أن هاتين العينين قد أُغمِضَتا إلى الأبد وأن التّراب قد كحّل منها الأجفان وطَمَر الأشفار ليمتصّها على مهل لا يستعجله فيها أحد!.
كان هناك في الجرود القاحلة حيث انفرد الصّخر بالشّمس اللّاهبة وتواطأَ معها، وهو واقفٌ كشجرة خضراء تريد أن تُظلَّ القحط والصّمتَ المريب، وبين الصّخور قاتلٌ لابِدٌ يريد أن يشرب الدّم ويقيم مملكة هوامّ وأشباح، لا ضوء فيها ولا يخضور!.
تنزل ببصرها عن عينيّ الشّهيد وتتأمّل أساريره التي بسطتْها ابتسامة حييّة كالأقحوان في مبتداه، لكنّها لا تلبث أن تقع أسيرة عينيه، تُعْشيان بصرها كسنا البرق: – إلامَ كنتَ تنظر قبل أن تعاجلك رصاصة الحقد والغدر؟ كيف لهاتين العينين أن تعبرا عالمَ الموت وتُنْبِتا، كلَّ ثانية أنظر فيها إليهما، ورداً وياقوتاً وغيوماً ممطرة؟ – حين وصلتُ إلى الجرد، كنتُ أعلم أنّني قادم للقاء القاتل، السّاكن في الغبار والجفاف والهباء والحُفَر وظلِّ الحصى! توضّأتُ بماءٍ طهور ولمسة يدِ أمّي! كانوا كثيرين بقلوبهم وملابسهم وراياتهم السّوداء؟ نعم! جاءتنا أوامر القيادة بوفرة الهجوم والالتحام وجهاً لوجه؟ نعم! كان لابد من اقتلاعهم من الجذور التي شرّشت في التّلال والكهوف والمعابر الضيّقة حيث يُحاصر حتّى الهواء، وقد سوّروها بالرّصاص والأحزمة النّاسفة وأوّل ما استهانوا به قدسيّة الحياة عند خَلْق الله! أنا لم أذهب كي أعود، بل ذهبْتُ شهيداً ليجدَ الماءُ طريقه إلى تلك الجرود وينهض فيها السّرو والصّنوبر والشّيح وشقائق النّعمان، ولحظة تخلّى جسدي عنّي، طافت أمام ناظري سريعاً، سريعاً، كما تدبّ الروح بأمر خالقها: أراجيحُ الأطفال في الحدائق ودواليبُ الهوا في أيديهم ممسوكةً بسيقانها النّحيلة تدور في دوّامات الرّيح، ووجوهُ الرّفاق يتعانقون قبل أن يتوزّعوا في الجبهات، وجدّي يتلمّس محراثه المستقيم أكثر من ظهره الذي أحنتْه السّنون، والغابات التي جمعتُ منها الزّيزان طفلاً وتدرّبتُ تحت أشجارها مقاوماً-شهيداً، وستارةُ الشّبّاك في علِّيتي الصّغيرة، ووجهُ أبي يُحصي حبّات الزّيتون في الشّجرة الفتيّة، قبل أن تُسدل أمّي السّتار على كلّ الصّوَر، تضمّ رأسي بذراعين طريّتين كنسيم الصّباح البارد وتطويني في حضنها وتهمس بكلمات لم أميّز منها إلا النّبرة الشجيّة التي كنت أسمعها في صلواتها كلّما غادرتُ في مهمّة، وفي المدى كان طائر أبيضُ يفرد جناحيه فوقنا، ثمّ يعلو ويعلو حتّى تلاشى في لازورد السّماء…
يا لهذه الوجوه التي ملأت الجرود بمحيّاها الجميل! يا لهذه العيون التي ترى مالا نرى! يا لهذا النور الذي سال على الأكوان وأقبلت معه ساعةُ الخلْق الأولى فتدفقت البحيرات ولمّا تزل وامتزجت الجزر بزرقة البحار حتى التبس على غاباتها الماء والتّراب وأنشدت الأطيار حتى لم يبْقَ لناي قصب أنين! ستة عشر قمراً في روضةٍ، إذا تمشّى المرء في جنباتها سلّم روحه للجمال والحُسْن لكأنّ القبح ما كان يوماً على هذه الأرض التي باتت بعد عبورهم عيْنَ القلب إلى مسرّات الوجود وما أدرك هذه المسرّات إلا متصوّف قال: ليست كلُّ عين ترى! حقّاً ليست كلّ عين ترى!.
The post آفاق.. تلك العيون appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.