تؤكد الدكتورة أسماء معيكل في كتابها «الأصالة والتغريب في الرواية العربية»، منشورات «عالم الكتاب الحديث- إربد» على أنّ كل خطاب اجتماعي يحدده مضمونه، وهناك مضمون آخر إلى جانب هذا المضمون ، مصدره كلّ من يتعامل مع هذا الخطاب: الكاتب أو الخطيب أو الجمهور. وإشكالية الأصالة والتغريب وما يراد فيهما: من مثل التراث المعاصر أو القديم والجديد وغيرهما إشكالية قديمة وجديدة في آن معاً.. قديمة لأنها بدأت منذ الاحتكاك بالغرب، وجديدة لأنها لمّا تنته بعد ، وربما وجدت بذورها منذ عصر محمد علي.
يتفق معظم الباحثين على أنّ الرواية العربية مدينة بوجودها إلى الرواية الأوروبية ، ظهرت الرواية المترجمة في البداية وبعدها ظهرت محاكاة لهذه الرواية المترجمة، وقد مرّ مفهوم الرواية ومصطلحها بمراحل متعددة قبل أن يستقر في اللغة العربية ، ويأخذ دلالته المتعارف عليها الآن، أي حكاية نثرية طويلة متخيلة.. ففي البداية أطلق على هذا الجنس الوافد اسم Roman وفي أواخر القرن التاسع عشر تداخل مصطلح الرواية مع المسرحية ( عند العرب ) ثم في أوائل القرن العشرين اختلط مفهوم الرواية بمفهوم القصة، وفي أواسط الخمسينيات وبعد ظهور روائيين محترفين كنجيب محفوظ، بدأ مفهوم الرواية يتحدد ليطابق المصطلح المحدّد لهذا النوع الأدبي، ولم تظهر الرواية العربية بمفهومها الحديث إلا في أوائل القرن الماضي في مصر حيث اتخذت اتجاهات ثلاثة هي: اتجاه رومانتيكي عاطفي تمثله أوّل رواية مصرية وهي: «زينب» 1913 لـ «محمّد حسنين هيكل»، ورواية «إبراهيم الكاتب «للمازني»، واتجاه تاريخي ظهر في روايات علي الجارم، وعلي باكثير وغيرهما، وتأثرت بالقصص التاريخية لـجورجي زيدان، واتجاه واقعي، وهو الغالب في الرواية العربية إلى الآن، ويتمثل في «يوميات نائب في الأرياف» 1937 لتوفيق الحكيم، وفي ثلاثية « نجيب محفوظ» بين القصرين 1955، وقصر الشوق، والسكرية 1957.
لقد ازداد تأثر الرواية العربية بالرواية الغربية مترجمة وغير مترجمة في فترة ما بين الحربين، وفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم سادت في بلاد الشام الرواية المتأثرة بالتراث الشعبي والرواية الخيالية الغربية في أواخر القرن العشرين، وقد لاحظ «عبد الرحمن منيف» ازدياد التأثر بالغرب وتغريب القصاصين والروائيين العرب في إنتاجهم الروائي، فرأى أنّ التجريب ومحاولات تجديد السرد قادت كثيراً منهم إلى محاولات لإثبات القدرة وللغرب بالذات- الكثير من القصاصين الغربيين -وكتابة قصص غريبة بأجوائها وناسها وموضوعاتها، وكأنها موجهة للغرب أيضاً. وإذا كان الغرب قد أثنى على براعتها فقد عدّها صدى له، وامتداداً لرؤيته، وفي مواجهة هذه الموجة، ومن خلال ازدياد الحديث عن التراث، وإمكانية الاستفادة منه واستغلاله ، فقد ظهرت مجموعة من الروايات التي استعادت عصوراً مظلمة وكتابات من نمط معين لتعيد إحياءها واستخدامها.
إنّ أغلب الباحثين يعدون سنة 1870 هي سنة نشأة الرواية العربية، والناقد «سمر روحي الفيصل» يقدّم رأياً في أنّ الرواية لا تملك معالجة الواقع، والروائي السوري ذاته ما زال حائراً بين أجناس أدبية عدّة إضافة إلى أنّه هاوٍ يكتب إشباعاً لرغبة، وينطلق من موهبة أدبية صرف لا تخالطها ثقافة اقتصادية واجتماعية واضحة، وهذا يعني أنّ تلك الرواية لا تعكس صورة واقعية للمجتمع ولا تعبر عن همومه وقضاياه، لأنها تصدر في الأغلب عن انطباع الروائي ورؤياه الخاصة التي يعبر عنها.
الرواية السورية، شأنها في ذلك شأن الرواية العربية عامّة، لم تخضع في نموها وتطورها لما خضعت له الرواية في الآداب الغربية التي تخضع في نشوئها وتطورها التقني للتطورات الاجتماعية، فهي جنس أدبي مستورد حاول وما زال يحاول أن يمدّ جذوره في المجتمع العربي، وفي مرحلة الستينيات والسبعينيات غلب عليها الالتزام العقائدي، ومرحلة ما بين 1980 – 1990 ، شهدت بدايات التحرر من قيود الأيديولوجيا الفاقعة، فظهرت روايات ذات رؤى تخرق المحظورات وتنتقدها، وأخرى تفسر التاريخ وثالثة اجتماعية ذات طابع إنساني وغيرها.
الرواية تعبير عن الثقافة الاجتماعية التي ينتمي إليها الأدب من جهة ، والبيئة التي أنتجتها من جهة ثانية ، إننا نستطيع من خلال الرواية العربية أن نقرأ الثقافة الاجتماعية التي يطرحها الكاتب ويصدر عنها، وهنا قد يحدث التناقض في الانتماء، فقد ينتمي الأديب والعمل الذي ينتجه إلى ثقافة وبيئة مخالفة لثقافته وبيئته الأصلية، وذلك من خلال انتمائه الفكري فيبدو العمل الأدبي بعيداً عن البيئة التي يصوّرها الآن الأديب يقوم بإسقاط ثقافته الشخصية وفكره على واقع لم ينتج هذه الثقافة، وإنما جاءت نتيجة تأثر الأديب، بها، وهذا سيؤدي إلى حدوث شرخ بين العمل الأدبي والواقع المعبر عنه، لأنّه يعبر عن هموم وقضايا ومشكلات بعيدة عن البيئة التي يتحدث عنها، وبذلك يبدو غريباً عن هذه البيئة وهذا المجتمع الذي يعتقد أنّه يدور حوله ويعالج قضاياه .
هكذا تدرس الباحثة الدكتورة أسماء معيكل في الفصل الأول الفضاء الثقافي متضمناً الانتماء العقائدي والموروث الثقافي، وفي الفصل الثاني: الفضاء السياسي الاجتماعي وفيه تتطرق إلى ظواهر عدّة منها: الصراع الطبقي والأسرة والعلاقة بين الفرد والمجتمع وظاهرة الانحراف، أما الفصل الثالث فهو بعنوان: الفضاء الجمالي، ويتناول الخطاب الروائي والزمان والمكان والشخصيات. وتشتمل الملاحق على حوار مع الروائي حيدر حيدر، وتعريف برواياته وملف بأعماله وما كتب عنه.
يقول الدكتور حسين الصديق في تقديمه لهذا الكتاب: «لا شك في أن أي نوع من أنواع الخطاب الاجتماعي يحدده مضمونه، لكن ثمة مضموناً آخر إلى جانب هذا المضمون، غير جليّ أحياناً، ومضمراً في أغلب الأوقات، مصدره كل من يتعامل مع هذا الخطاب: الكاتب، أو القارئ، أو الخطيب، أو الجمهور. والدراسة التي أجرتها الدكتورة أسماء أحمد معيكل على الروائي حيدر حيدر، هي، في اعتقادي، واحدة من أوائل الدراسات العربية التي سعت إلى الخروج من فخ التأريخية، والنقدية، والتهويمات الفرويدية، إلى رحاب النظرية الأدبية التي تستفيد من نتائج جميع الدراسات المهتمة بالمجتمع، وحقوله المختلفة، في تعاملها مع النص من جهة، ومجموع النصوص من جهة أخرى». ومن مقدمة الدكتورة أسماء معيكل للكتاب نقرأ: «تطرح هذه الدراسة إشكالية الأصالة والتغريب في الرواية منطلقة من أن الرواية نوع أدبي، والأدب نتاج المجتمع في كل مجالاته، فهو أسمى استخدام للغة في المجتمع. واللغة ظاهرة اجتماعية، ولما كانت هي أداة الأدب، فإن الأدب يصبح أيضاً ظاهرة اجتماعية. وثمة علاقة وثيقة بين النوع الأدبي والمجتمع، فهو في ولادته وتطوره وانقراضه يرتبط بالمجتمع الذي يوجد فيه».
The post الأصالة والتغـريب فـي الروايـة العربية: قـراءة فـي روايات حيدر حيدر appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.