«الكوجيتو» البديل الذي نسند به انبعاث الأمة العربية، والتي من حسن حظّها (وليس من سوئه) أنّها لم تكن أمّة كارتيزية (نسبة إلى ديكارت) بل ظلّت أمّة لأفضل فنون القول: الشعر.. القيمة التي يمنحها الشعر ليست قيمة جمالية فحسب، بل هي نشاط يحمي بنية الثقافة العربية من الاختزال، وهكذا يستطيع العرب استئناف وعيهم من لحظات شعرهم الذي وحده يستطيع أن يخرم تمأسس العقل المعاصر على ثنائيات قاتلة وحصرية ما يجعله عقلاً قادراً وحده على أن يتفهّم، أكثر من سائر الأمم نقد الحداثة وانسداداتها، حيث لا نرى في كل محاولات الغرب الحديث اليوم، وفي مقدّمتها خطاب فلاسفة فرانكفورت، إلاّ ترجمة فلسفية لما يجيش به الشعر العربي، الضّامن للأمة العربية من السقوط في اختزال الكارتيزية وكلّ ما لا يلزم من حداثة تختزل العقل وتورث الفصام، الشيء الذي لم توفق الأمة العربية في تحقيقه لأنها أعادت إنتاج الانسدادات نفسها، واهتمت بالتحديث من دون الحداثة، أي أهملت الحداثة من دون أن تضع سياسة لتدبير ممكنات الحداثة بدل إقصائها من جدول أعمال التحديث العربي.
نحن هنا لا نبحث عن الانفصام بل نبحث عن الاحتواء والاستيعاب، نبحث في إمكانات المعقول واللامعقول.. نظرتنا للعقل العربي يجب أن تتطوّر إلى أبعد مدى لنبلغ اللحظة الحقيقية التي ينفتح فيها العقل على آخره، والحداثة على ممكناتها.
وفي هذا الإطار نؤكّد أنّ السؤال التاريخي اليوم ليس القيام بأنوار عربية على نمط الأنوار الأوروبية، ذلك لأنّنا نعيش لحظة تاريخية حرجة وتحدّيات تختفي خلف الشعار ذاته حتى بتنا ضحايا أنوار غايتها التشويش على الوعي. نحن في مقابل هذه الأنوار التي تحجب عنّا الرؤية، أنوار خادعة، ندعو إلى العتمة، أو اللحظة التي تخفت فيها الأنوار المضللة لكي نعرف كيف نفكّر في مصائر وعينا ففي العتمة يستطيع العقل أن يقوم بمهامه بطريقة أفضل.. إنّ مسؤولية المفكّر حيال المفاهيم التي تؤطّر هذه الفوضى تقتضي لحظة موسومة بالعتمة.
السؤال غير التقليدي الذي نجاوز به اللّحظة الكارتيزية المستحيلة والمتجاوزة في آن واحد في وعينا العربي له صلة بمشروع هدم أصنام الثّنائيات القاتلة والانفتاح على تجربة الوجود خارج مقولات الاختزال.
عملية الفصام بين العقل والقلب هي الأخرى تفيدنا، نحن العرب، بناء على بنيتنا التي يعجز عن حملها عقل البرهان بمعناه الأرسطي العقيم، من حيث هي بنية شعرية مفتوحة على كلّ إمكانات الوعي والشعور الدّافق بالوجود. إنّ عملية تجزئة العقل عن القلب يعني أن العقل الذي استنزف لم يعد قادراً على تجديد نفسه وهو آيل إلى الرتابة والعطالة والاندثار، بينما القلب زاخر بالطاقة المتجددة وهو يحمل معه بذور كل ممكنات العقل التي تنبثق منه في لحظات تاريخية معينة. ربما هذا الذي عناه جاك دريدا الذي رأى أن الثقافات الأخرى، بما فيها العربية، هي هامش مهمّ لنقد أوهام الحداثة الأوروبية.
قد ننظر إلى القسمة المذكورة من منظور الانقسام الخلوي، ذلك لأنّ نواة الخلية المقسمة ظلّت في جهة القلب لا في جهة العقل، وهو ما يتيح للقلب إعادة الانبعاث أكثر من عقل مفصول لا يحتوي على نواة، وهذا يعطينا أيضا فكرة عن التقسيم الهولغرامي الذي يجعل الجزء يتضمن الكل. والقلب هنا في هذه القسمة يمتلك إمكانية انبعاث الكلّ مجدّداً، فيكون القلب يملك إنتاج العقل في مستويات ومديات متعددة.
نستطيع إغواء الأمم بالعقل الأداتي وتقنياته الآنية، لكن الأمة تمتلك القلب، ويحصل أنّ الأمة تتعرّض للاستغلال وتحريف العقل وتصبح في حالة هياج كما يحدث دائما في تاريخ الأمم، ولكن سرعان ما تعود بقلبها الذي يهزم خداع العقل الأداتي ويعيد بناء موقفه العقلي البديل. يمكن للأمة أن تفقد تفوقها العقلي نتيجة تخلفها أو تعطيل إرادتها أو استغلال تناقضاتها ولكنها لا تفقد القلب، ومنه فقط حتمية استعادة روح الأمّة.
يعطينا غوستاف لوبون فكرة عن سيكولوجيا الجماهير التي تكمن قوتها في هشاشتها، وكذا قابليتها للاستعمال الخطأ، وقد تطرق تشومسكي إلى طرائق السيطرة على الوعي والجماهير واعتماد سياسة الهيمنة على الأذهان منذ الحرب العالمية الأولى وظهور أولى سياسات العلاقات العامة لترويض الشعوب والسيطرة على عقولها.
وأيّاً كانت التقنيات التي أفرزها العقل الأوروبي اليوم وأصبح العالم ضحيتها أيضاً فهي لم تبلغ إلاّ مستوى متدنّياً من الحداثة نفسها، أي مستوى إنسان روسو بتعبير نيتشه، إنسان يمتلك قوة الثورة الدائمة وتغيير الأوضاع ولكن لا يتوفّر على ملكة تحمّل الوعي وتقصّي الحقيقة وإرادة المعرفة، بل هو كائن مهيّأ فقط لكي يعيش بأنصاف الحقائق خلافاً لمستوى إنسان غوته وإنسان شوبنهاور.
كاتب مغربي
The post نحو «كوجيتو» عربي جديد appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.