يوماً ما عندما تعتدل دفة التاريخ، وتخرج التمويلات الأجنبية التي تنتج سرديّات سياسية «أسطورية» من اللعبة، سيعرف الكل أن الشعب العراقي (الشعب العادي بمختلف «مكوّناته») كان على استعداد للتعايش، والنضال في سبيل تحسين الحياة على أسس واقعية معقولة لتصب خيرها في مصلحة الكل، وأنه امتلك استعداداً للدفاع عن مصالحه عبر مناهضة مشتركة ضد الناهب الغربي وعساكره واحتكاريّاته وحدد هؤلاء كخصوم.. لا شيء عوّم المسائل الإثنية والصراعات، إلا مصلحة الاستدمار الأورو-أمريكي في التدمير، وأن ما نجابهه اليوم فيما يخص المسألة الكردستانية في العراق ودعاوى الانفصال، مُعلّق في رقبة الماضي لا الحاضر فقط، ومُرتبط باللحظة التي قرر البيت الأبيض فيها عبر هذا الثلاثي (شاه إيران و«إسرائيل» وعدنان مندريس) أنه يجب تقديم الدعم لـ «نخب» سياسية كرديّة (مصطفى برزاني، وجلال طالباني، وإبراهيم الأحمد.. وإلخ) لمناكفة وإرباك ثورة 14 تموز 1958، التي حدثت في العراق فأسقطت الملكيّة، وحطّمت حلف بغداد، وحررت البلاد من الدوران في فلك البريطانيين، وبدأت في الاتجاه يساراً، فكان الرد على ذلك بتمويل وتسليح وتدريب الجماعات السياسية بين الأكراد وتأجيج صراعاتهم مع الحكومة المركزية العراقية (في زمن عبد الكريم قاسم)، ثم امتد الأمر لما بعد قاسم، وكلّما بادرت بغداد في اتجاه تحرري كتأميم النفط أو اتفاقية صداقة مع السوفييت، كما في أوائل السبعينيات، كان الرد الفوري على ذلك بدعم الحركات التي تطرح خطاباً إثنياً وانفصالياً في شمال شرق العراق ومناكفة الحكومة المركزية عبر هذا الباب، وبعد 91، حظي إقليم كردستان بحماية من الطيران الأمريكي، ثم امتنع الجيش العراقي عن التواجد هناك، فصار الإقليم مستقلّاً بحكم الأمر الواقع، وبعد الاحتلال الأمريكي في 2003، الذي دخل للعراق بالتعاون والتنسيق مع زعامات الإقليم، تعزز وضعهم (ونعني ساستهم، حيث تراكمت ثرواتهم من مخصصات العوائد النفطية).. ذلك هو أصل المسألة.. سيقولون «إن البعثيّة العراقيّة كانت عنصرية في بعض طرحها القومي وممارساتها؟»، ولكن ساسة الأكراد (من الفصائل المذكورة) يثورون منذ ما قبل ذلك بسنوات، وعلى العكس هم، كانوا عنصراً فاعلاً ضد النظام السابق وفي تسهيل الإطاحة به، مع التذكير بأن أكراد العراق يحوزون حقوقهم الثقافية والاقتصادية بما لا يقارن بوضعهم في تركيا، مثلاً، وثمة اتفاقية حكم ذاتي وُقّعت عام 1970 عززت مكاسبهم وأكدت استعمال اللغة الكردية في المؤسسات التعليمية وأشركتهم في الحكومة…؛ سيقولون السلطة كانت عنيفة معهم إلى حد دموي؟، نقر بذلك (من دون أن ننفي ونحن ندين أن جزءاً منه كان في سياق رد الفعل)، لكن، وعلى كلٍ، لم تكن تجاوزات السلطة حكراً عليهم، بعض من أبناء الوسط والجنوب عانوا أكثر، وهم أحرص الناس، باستثناء بعض العناصر الطائفية، على وحدة أرض العراق اليوم (لكن الغريب حقاً، هو أن الحريصين على «الدماء» والحريّات لا يذكرون كم التصفيات التي قام بها زعماء الإقليم مثل مسعود برزاني لمعارضيهم؟، ولا يتناولون الحرب الكردية الداخلية التي استمرّت ثلاثة أعوام بين قطبي السياسة الكردية بداية من 1994، ومات بسببها أكراد أيضاً؟).. على العموم انتهى النظام السابق منذ 14 عاماً، واحتلّت العراق، وطُحن عظمها في الهجمة الأنجلو-أمريكية، وأمسك ساسة كردستان بمناصب رفيعة في الحكومة العراقية المركزية، ومع هذا يطالبون بالانفصال -هل من تفسير؟!.
لولا الدعم الخارجي.. لما كان ما كان.. والحكاية لا تبدأ من تعليق عنصري شوفيني بين عربي وكردي على مواقع التواصل، الحكاية تبدأ من عند عميل أمريكا شاه إيران، ومن عند لقاءات رئيس الأركان الإسرائيلي تسفي تسور مع مصطفى البرزاني في عام 1960.
الأكراد أهلنا ورفاقنا ومن أقرب الأعراق والثقافات للعرب، وتاريخنا وثقافاتنا وأنسابنا متداخلة، وحتى من يذهب به شططه نحو إثبات عروبة قديمة للأكراد أو أصول مشتركة، هو يبحث في الحقيقة عن التقريب وعن ما يعزز (التلاقي والاتحاد)، لا أكثر -لا التذويب القسري أو ابتلاع الحق المادي [قبل الثقافي أبداً-، وبالمثل يفعل من يطرح العروبة كهوية حضارية لهذه الرقعة الجغرافية الممتدة من المحيط للخليج، ولن ننسى أن مئات الألوف من أكراد العراق خارج إقليم كردستان (أكراد الفيليه، كمثال) هم ضد الدعاوى الانفصالية إلى جانب أعداد معتبرة في الداخل، ولولا أطماع الساسة والمصالح الاستدمارية الدولية، لما كان ما كان، وما يجري من جانب زعماء الإقليم هو تجارة بالأكراد لا سعي نحو مصالحهم، ولا يمكن أبداً، أن تكون مصلحة الـ4 أو 5 ملايين كردي عراقي، الانعزال عن محيطهم العربي والانسحاب والتقوقع خلف الحدود، وتأسيس كيان مصطنع يخدم الإمبريالية الغربية مباشرة، ويعتمد عليها في وجوده، ويمثّل تهديداً وعامل إقلاق لجيرانه.. ثم إن تأسيس «دولة» أو «كيان» على هذا الأساس الإثني، سيجرّه بالضرورة نحو تقسيمات أخرى، فهناك عرب وتركمان، وبأعداد مُعتبرة داخل إقليم كردستان (ما الحل فيهم؟)، وكذلك هناك تنوع مذهبي، وهذا التنوّع الذي هو موجود بالضرورة داخل كل جماعة بشرية، لو تم تحويله إلى دعوات انفصالية، فهذا سينتهي إلى دائرة فارغة وتفكك بلا نهاية.
العجيب أن جماعة «الليبراليّين الجدد» الذين يثورون على الكردي لو تحدّث العربية -باختياره وتأثراً وتطوراً مع محيطه- ويرفعون شعارات جديدة عليهم (كـ «الهوية» والانتماء «القومي»..) هم ذواتهم يحشرون أبناءهم في المدارس الدولية، وينفقون عليهم أرقاماً ضخمة لتصير الإنكليزية لغتهم الأولى، ويصرّون على التحاور بها في منازلهم حتى يتشربها الجيل الجديد، ولا تلحظ في سلوكهم أي قدر من تلك الحميّة «الهوياتيّة» أو «الحرص القومي».. وهذه مفارقة كاشفة لكيفية تحوّل الشعارات لمادة للتجارة.
أما من أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة، هو أن المحاصصة (الحل الأمريكي البريمري الذي تروج له النخب التابعة في كل مكان) وبعد 14 عاماً من الاحتلال لم ينجز أي شيء في العراق، على العكس قدم السم المضاعف في صورة دواء، ومادامت الأطماع حاضرة، والتدخل الاستدماري الأمريكي حاصلاً، ومن خلفه الشركات الراغبة في الأسواق مجزّأة تقف خلفها سلطات ضعيفة متصارعة تابعة لا تقدر على مبارزة الاحتكاريات العالمية، ومادام المشروع الوطني الجمعي مُنهاراً… فالبلاد والاتحادات ستتفتت.
إن المشروع الذي هندسه الأمريكي في بغداد هو ذاته الذي أنتج زعماء التقسيم والانفصال، و«المحاصصة» (تغليب الطائفية والإثنيّة على المشروع الوطني الجمعي) لم تنجز ما كان يُزعم أنها قادرة عليه، على العكس، كانت حائلاً دون تحقيق الاندماج وعززت كل ما يؤدي للتفتيت وكل ما يساعد على الانحباس في الماضي وتقديس الموروثات.
ولا عزاء للفقراء والكادحين أو المشروع الجمعي القادر على النهوض بالكل أو الأبطال الذين سالت دماؤهم لتطهير بلادهم من الدنس الداعشي.. وليغرق الكل في بحر من الإثنيّات والطوائف والمذاهب خدمة لآلة النهب الدولي.
لمن لا يزال يهمّه الأمر فالعدو الإسرائيلي مسرور بما يجري في العراق وداعم ومساند، وأعلام الكيان تُرفع في المظاهرات المؤيدة للانفصال، أما موقف جماعة الإخوان فهو مُصطف في الخندق ذاته، حيث يمثّل الجماعة في كردستان «الاتحاد الإسلامي الكردستاني»، وقد أعلن الحزب موقفه الداعم للاستفتاء على «الاستقلال»، وصوّت أتباعه في البرلمان الكردستاني بهذا، وجاء الأمر على خلفية تشكيل كتلة من حزب جماعة الإخوان والديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني تدعم الاستفتاء وتروّج له.
كاتب من مصر
The post عن «كردستان العراق».. متى بدأت مشاريع التفكيك؟ appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.