الاحتفاء بالطبيب الراحل وجيه البارودي آخر شياطين الشعر

ت- محمد فندي
يُسمعنا الأستاذ الباحث اسماعيل مروة، في الندوة التي أقامتها وزارة الثقافة في مكتبة الأسد الوطنية مؤخراً عن «وجيه البارودي..طبيباً وشاعراً وإنساناً»، صوتَ الراحل عبر تسجيلٍ لحوار قديم أجراه معه في أواخر الثمانينيات، وهو يقول: «لستُ من خوارق الشعراء الذين يدّعون أنهم أتوه باكراً، لكنني دخلت عوالمه في سن العشرين. لم أُقرزِم الشعر (أي لم يقلْ شعراً رديئاً) كما يفعل الكثيرون؛ بل قلتُ شعراً صحيحاً حتى اليوم وأنا في الثالثة والثمانين. كما لم أقل في عمري قصيدةً كرمى لأحدٍ أو بتكليفٍ من أحد، بل قلتُ الشعر هاوياً فـ(أنا في السياسة ليس لي باعٌ/ ولي في الحب أجنحةٌ تحلّقُ للعلا)».
وكأنّ البارودي في هذا البيت الشعري يقول جوهرَ روحه وكينونته وأعمق رغباته التي حجّمتها مهنة الطب التي بذل لها ليله ونهاره حتى آخر أيامه التي عاشها وحيداً وعاتباً مقهوراً من أبناء مدينته حماة التي لم تبادله الوفاء والمحبة، كما كان يقول، رغم كل ما قدّمه لأبنائها وناسها كأقدم طبيبٍ مارس مهنة الطبّ في سورية مدة 59عاماً.
والسبب في ذلك، كما يشير الباحث مروة، هو عدم فهمهم الدقيق للمعنى الحقيقي لشعره الهجائي الذي تناول فيه مظاهر الجهل وتعلّق الكثير من الناس بالغيبيات والشعوذات بدلاً من عقلانية العلم وثوريّته الحقيقية كطريقٍ للنهضة والتنوير، في الوقت الذي فهموه على أنه هجاءٌ لحماة وتاريخها ورموزها، وهذا ما كان يغضب البارودي ويحزنه جداً.
ويقدم لنا مروة تفسيره لغضب الشارع الحمويّ من البارودي، فعلى عكس القبول عند البيئة الرقّاوية التي لم تعامل الراحل الدكتور عبد السلام العجيلي بالقسوة نفسها، رغم انتقاداته الكثيرة لها، نرى أن دخول البارودي في هذا الإشكال سببه الفرقُ بين النثر الذي يُشرِّحُ ويفصّل مكامنَ العيوب كما عند العجيلي وتالياً يبدو أكثر قرباً للفهم والتفهّم عند المتلقين، وبين الشعر الذي يكثّف ويختزل ويرمّز وتالياً يصعبُ التقاطُ معانيه الحقيقية كما عند البارودي.
ولعل غنى شخصية البارودي، آخر شياطين الشعر كما وصفه الدكتور سهيل عثمان، جعل الندوة تتناوله من ثلاثة جوانب أو عبر ثلاثة محاور: فالدكتور الشاعر نزار بريك هنيدي قارب بين البارودي شاعراً عاشقاً وطبيباً فخوراً بمهنته الإنسانية التي زادت شعره رهافةً ورقة وتعمّقاً في فهم العلاقات الإنسانية رغم ما كان يبديه من غضبٍ حقيقي تجاه جهل مرضاه وإيمانهم الأعمى بخزعبلات الدجالين الذين يوهمون الناس بقدرتهم على الشفاء بعيداً عن عيادة الطبيب ووصفات الدواء… وفي المقابل، يكمل الدكتور هنيدي، كانت لدى البارودي قدرة الاحتمال على العمل ساعات طويلة، والصبر العجيب والتفهّم لوضع الناس البسطاء حين يراهم بالعشرات في باحة عيادته؛ تلك التي افترشت الأرض تقمِّعُ البامياء، وذاك يدخّن تبغاً عربياً، وأخرى تحفر الباذنجان ومعها جاراتها ومجموعة أطفال مرضى يسعلون ويتوجّعون.
كما مرّ الدكتور هنيدي على بعض طرائف البارودي التي اشتهر بها وتناقلها الناس، إذ ما كان له مرّة أن يخفّف عن مريضِ عشقٍ عانى من هجران حبيبته إلا أن ذكَّره بقول المتنبي وطلب منه أن يكرره عشرات المرات حتى شُفي: «إِذا غَدَرَت حَسناءُ وَفَّتْ بِعَهدِها.. فَمِن عَهدِها أَلا يَدومَ لَها عَهدُ/ وإِن عَشِقَتْ كانَت أَشَدَّ صَبابَةً.. وإِنْ فَرِكَتْ فَاذهَبْ فَما فِرْكُها قَصدُ»، وفي الرواية الشعبية يذكر أنه قال لمريضه باللهجة الحموية: «أي الحلوة لازم تغدر، بس البشعة بتعلّق برقبتك متل القرّادة».
والمفارقة المضحكة، يروي هنيدي، هي أن البارودي رغم تمسّكه الشديد بالعلاج الطبي العلمي وفخره العالي بنفسه وقدرة يديه على تقديم الشفاء لكأنّ طيف المسيح مرّ على يديه فمنحه القدرة على الشفاء: «مرّ المسيحُ على يديّ بطيفه المتهلّل.. فزهوتُ في فن الطبيب وفي كرامات النبي/ ومشيتُ في شوك الضنى والضنْك أحمل منجلي.. وشفيتُ كلَّ معذبٍ من دائه المستفحلِ»، إلا أن القيمة التي يوليها شاعرنا للعِلم والطب ستتقهقر أمام عظمة وقوة الحب كأفضل دواء لمعالجة الشيخوخة والأمراض: «ألا أيها القوم المسنّون أقبِلوا إلى اللهو لا تُصْغوا لنصْحِ طبيبِ/أحِبّوا أحِبّوا فالهوى يبعث الصبا.. أحبّوا فإن الحبّ غيرَ مغلِّبِ»!.
بل لكي يبرأ هو نفسه من وجعٍ والتهابٍ شديد أصاب أذنه، ولم تنفعه العقاقير عامين كاملين، يطلب من حبيبته أن تمسح بفمها على أذنه؛ فإذا بها تصحّ ويعود لها سمعها: «أذني التي التهبت وعزّ دواؤها عامين من جرّائها أتوجع/ قلت امسحي أذني بفيك وتمتمي فيها/ فمن فمك الدواء الأنجع/ واللهِ ثمّ اللهِ يومٌ بعدَه يوم إذا أذني تجفّ وأسمعُ».
أما الدكتور راتب سكّر، ابن حماة ونواعيرها وفارس الكلمات الأصيلة كما وصفه الباحث مروة، والذي عايش البارودي أعواماً مديدة، فقد تناول جانباً مهماً قلما تناوله الباحثون وهو «جدلية الشرق والغرب في شعر البارودي»، فالراحل ابن نهضةٍ علمية تذوّقها في بيروت وباريس ودمشق، ولذلك حمل همّه التنويري والوطني في زمن عاشت فيه سورية تغيرات سياسية واجتماعية متقلّبة وكثيرة، خاصة في مدينة حماة التي يمكن وصفها بـ«قريةٍ كبيرة»، ولأن البارودي عاش مع عمالقة مثل ابراهيم طوقان وحافظ إبراهيم وغيرهما من عباقرة عرب كان طبيباً متمرّداً راغباً بنقل شرارة التمدّن الساعي إلى قبْسِ جمرات النهضة الغربية ونقلها إلى بيئة أقل تمدّناً وأكثر ريفيّةً…لكن هذا ما جعل البارودي أيضاً يتشظّى في دخيلته ويكرّر السؤال المضني حين عاد إلى سورية في منتصف القرن الماضي: هل علينا أن نقلّد الغربَ صنوَ النجاح والتفتّح والحضارة والتقدّم، أم علينا أن نُخْلِص لأمّنا الطبيعية وانتمائنا وهويتنا الوطنية؟!. ثم دعا البارودي إلى نقلة عقلانية علمية تزعزع بيئته المحلية التي تنحو اتجاهاً عروبياً إسلامياً، وهذا ما أثر عميقاً في شعره، فراح يقول: «هذي التقاليد أضحت في عصرنا تدجيلا.. الغرب يبني صروحاً والشرق يبكي الطلولا/ في الغرب طاروا نسوراً وسخّروا المستحيلا.. والشرق ظلّ يناجي أهل القرون الأولى»… ويقول: «تقدّم الأنامُ في البلاد إلا العرب..على فراش الدين والعادات ناموا حقبا/ الدخلاء بينكم أهلٌ وأنتم غربا.. تؤيدون المعتدي وتعبدون اللهبا»… ويختم الدكتور سكر بأمنيته أن تكون صرخات البارودي ودعواته هدْياً لنا لنكون أهلاً للحضارة الإنسانية، وأن تُسمَع ليس فقط في ربوع العاصي بل في أنحاء بلادنا كلها.
وهكذا كانت ندوة البارودي استحضاراً وجدانياً وشعرياً لمن عرف الطبيب البارودي وعايشه عن قرب، أو من قابله وامتزج بشعره الغزليّ، أو من قاربه من باب تقدير المبدع للعظماء ممن تركوا نسْغهم يسري في جذع حياتنا سواءٌ أدركنا ذلك أم لمْ ندركه.

The post الاحتفاء بالطبيب الراحل وجيه البارودي آخر شياطين الشعر appeared first on صحيفة تشرين.

Rea more
Posted from صحيفة تشرين
Thank you for reading the الاحتفاء بالطبيب الراحل وجيه البارودي آخر شياطين الشعر on Syria News Kit If you want to spread this News please include links as Source, and if this News useful please bookmark this page in your web browser, by pressing Ctrl + D on your keyboard button, Or click the share button to place it on your profile.

Latest news:

Note: Only a member of this blog may post a comment.