في القانون الأمريكي الأعمال الفنية معفاة كليّاً من الرسوم الجمركية. وعندما أدخل النحات الروماني برانكوزي تمثاله المعروف تحت عنوان (طائر في الفضاء) إلى الولايات المتحدة عام 1940 رفضت الجمارك الأمريكية إعفاءه من الرسوم بوصف المجسّم المعدني المقصود بالإدخال ليس عملاً فنّياً. وعلى أساس النقاش المثار بشأن التمثال انتقل البحث في حيثيّات الموضوع إلى المحاكم الأمريكية التي أتت مداولاتها ومجرياتها على البحث في مفهوم العمل الفني، وتعريفه فلسفياً، وقانونيّاً وتحديد العتبة الدقيقة التي يتحدد بموجبها المفهوم. فما يستطيع بلوغ العتبة وتجاوزها يحظى بالصفة الفنية، والعكس صحيح.
الدوائر الجمركية التي سعت إلى إخراج تمثال برانكوزي من نعيم الفن، وإدراجه ضمن متاهة منتجات العصر المثقل بالسلع، لم تكن مبتلاة بالغباء والمحدودية الذهنية التي جعلتها تقف ذلك الموقف من تمثال يشكل الآن علامة بارزة في تاريخ الفن الحديث. فالتمثال مجرّد قاعدة معدنية ينطلق منها ما يشبه العمود المنحني المستدقّ باتجاه الأعلى. بمعنى إنّ أحداً من المتعاملين مع الكتلة لا يستطيع أن يجد أيّ رابط بين الكتلة المعدنية الفراغية وعنوانها الواسم (طائر في الفضاء). وعبر نفي الرابط البصري بين الطرفين: الكتلة وعنوانها، تقع فكرة التجريد في صيغتها الأقرب مأتى إلى الاستيعاب الذهني. فالنحّات في مثالنا المذكور سعى إلى تجسيد فكرة التحليق، والطيران، والانطلاق باتجاه الفضاء، ولم يسعَ إطلاقاً إلى أن ينحت طائراً محلّقاً في الفضاء. وشتان ما بين الأمرين. فالطائر المحلّق لا يمكن أن يكون إلا طائراً محلّقاً فقط، بينما يتمتّع العمل الساعي إلى تجسيد فكرة التحليق بثراء دلالي مفتوح يتجاوز مختلف أنواع الطيور، والدويبات الطائرة من حشرات وخفافيش، ليشمل أيضاً مختلف الأجسام المعدنية والأجرام التي باتت تزحم سماواتنا الراهنة. وأتى ذلك جميعه عبر الحركة الرشيقة ذات الانحناءة الخفية التي يلتزمها كل جرم محلّق. ثمة فرق جوهري بين أن يرسم الفنان، مثلاً، أشجاراً وأغصاناً تتعرّض لهبوب الريح، والعصف الشديد، وبين أن يحاول رسم فكرة الهبوب ذاتها.
يعي الجميع -حسبما أفترض- أنّ الفنانين (رسّامين ونحاتين وأدباء) الذين يحاولون مباشرة حياتهم الفنية بطرح رداءاتهم التقنية تحت عنوان التجريد هم فنانون ساذجون يفتقرون إلى الحد الأدنى من الخبرة الجمالية التي لا بد من تعلّمها، وإتقانها بالمعنى الحِرفي الخالص، قبل أي اعتبار آخر. وهم لا يستطيعون عبر مباشرة الرداءة التجريدية أن يخدعوا أحداً سوى أنفسهم.
التمثال – أي تمثال- بوصفه كتلة ناهضة في الفراغ، مخاطباً حاسّتي اللمس والبصر، يتناقض ظاهرياً مع فكرة التجريد التي سعينا إلى بسطها، فالتجريد مفهوم ذهني، والكتلة المنحوتة هي الأكثر تعارضاً مع المفهوم الذهني المجرّد، بحكم طبيعتها الحسّية الصلبة، ووزنها الصريح، وقدرتها على مخاطبة حاستين، لا حاسّة واحدة، كالموسيقا أو الأدب الذي يخاطب الذهن مباشرة من غير وسيط حسّي. ورغم ذلك، يمكن الذهاب إلى أنّ الأعمال النحتية ذات المنحى التجريدي هي التي تزحم حياتنا الراهنة على مستوى العالم، لا على مستوى منطقتنا التي تفضّل النحت المجرّد على النحت الذي يوحي بكائنات ذات أرواح، بوصف الكتلة التي تمثّل كائناً حيّاً لا تزال لدى ذوي العقول السطحية الساذجة ملتبسة بفكرة الصنم الذي يفترض بعض هؤلاء قدرة التمثال المعاصر على صرف المسلمين عن دينهم القويم، وعبادة الله. وربما، لهذا السبب تزدحم مدننا المعاصرة، بما فيها مدن الجزيرة العربية ذات النزعة «الحداثية جداً» بالتماثيل ذات النزعة التجريدية الصرفة كأعمال هنري مور على سبيل المثال.
The post آفاق.. نحت تجريدي appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.