هناك جملة من المخاطر تهدد الأمن القومي العربي، من بين تلك المخاطر أزمة المياه التي بدأت مع تهديد دول الجوار العربي التي تعد المصدر والمنبع الرئيس للمياه المغذية للأنهار التي تمر أو تصب في بعض الدول العربية بإقامة سدود في مناطق تغذية المياه بطاقة تخزينية عالية تحرم العرب من حصتهم الرئيسية من المياه، سيكون لها انعكاس واضح على حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ففي ظل وجود أثر كبير لأزمة المياه المتعمدة على الأمن القومي العربي لابد من التنبه إلى أخطر العوامل الرئيسة المهددة للأمن القومي العربي والتي تكمن بوجود الكيان الصهيوني في فلسطين العربية المحتلة وأهدافه الجيو- سياسية ومخاطر ذلك على حاضر المنطقة ومستقبلها، سواء في احتلاله الأراضي العربية أو ممارساته العنصرية أو في تبنيه استراتيجية «المحاصرة والتطويق» وغير ذلك من ممارساته القذرة التي يحيك خيوطها ضد أمتنا العربية سعياً لتحقيق أهدافه العدوانية.
ونشير هنا إلى دور هذا الكيان الإسرائيلي الاحتلالي في تحريك أزمة المياه المهددة للأمن القومي العربي مستغلاً علاقاته مع دول الجوار العربي، وخاصة تركيا وأثيوبيا باعتبارهما الخزان الرئيس للمياه العربية ( الفرات- دجلة- النيل ) ولديهما تطلعات لاستغلال علاقاتهما مع «إسرائيل» والولايات المتحدة، والظروف الحالية التي تمر فيها الأمة العربية والمنطقة لإقامة المشاريع المائية على حساب حصة الدول العربية، لذلك لعب الكيان الصهيوني دوراً وضيعاً في تشجيع هاتين الدولتين لإقامة السدود على منابع الأنهار المغذية للوطن العربي لحرمان العرب من حصتهم المائية في خرق فاضح للاتفاقات الدولية الضامنة لمصالح الأطراف المتشاركة في مياه الأنهار.
فتركيا انتهزت فرصة متانة علاقاتها مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وتقارب المصالح والأهداف فيما بينها وبينهما للشروع في استغلال مياه نهري دجلة والفرات على حساب دول المصب العربية، مستفيدة من الأوضاع السائدة في المنطقة عموماً، والعراق وسورية تحديداً من أجل حرمان البلدين العربيين من حصتهما من مياه النهرين مايعني نشوء مخاطر مائية تهدد البلدين من جميع النواحي، أما أثيوبيا فهي الأخرى أيضاً استغلت الظروف نفسها للتحرك باتجاه إنشاء سدود جديدة تهدد بحرمان السودان ومصر من حصتهما في مياه نهر النيل بشكل يهدد أمنهما المائي، وتالياً فإن ما يجري في هذا الإطار ستكون له تداعيات خطرة على الأمن القومي العربي في مختلف الجوانب.
وفي الواقع تعاني منطقتنا من نقص المياه، وهذا النقص يعد مشكلة إستراتيجية، بيد أن تركيا الوحيدة في المنطقة التي تتمتع بمخزون كبير من المياه، ولابد هنا من لفت الانتباه إلى ما قامت به تركيا في الآونة الأخيرة في إطار الإخلال بالأمن المائي العربي وانتهاك الاتفاقيات الدولية الخاصة بتقاسم المياه بين الدول، بقطع مياه نهر الفرات عن الأراضي السورية أهم مصدر رئيس للمياه في الشمال السوري، ما انعكس سلباً على الواقع الاقتصادي والاجتماعي، حيث انخفض مستوى احتياطيات المياه بنسب كبيرة وتوقفت عنفات التوليد الكهرمائية في سد «تشرين» الذي يقوم بتأمين حصة واسعة من مياه وكهرباء المنطقة الشمالية، وعلى الامتداد ذاته يوجد أيضاً سد «الفرات» الذي يحتجز خلفه «بحيرة الأسد» التي تزود مدينة حلب بالجزء الأكبر من التيار الكهربائي ومياه الشرب، وكذلك تأمين مياه الري لما مساحته 640 ألف هكتار من الأراضي الزراعية.
وما قامت به أنقرة لم يكن المرة الأولى من حيث قطع مياه الفرات عن سورية وحرمان السوريين من مياهه في سبيل تحصيل مكاسب سياسية في المنطقة، فقد قامت أيضاً في أيار2014 بقطع المياه ما أدى إلى انخفاض مستوى منسوب «بحيرة الأسد» إلى نحو 20 قدم في خطوة وصفت بالتحضير لما يشبه إبادة جماعية عبر الجفاف، ناهيك بالتهديد الذي يلحق بالعراقيين أيضاً في المناطق التي تعتمد بشكل واسع على مياه الفرات، إذ سيواجهون عواقب وخيمة في حال استمرار هذا القطع الجائر للمياه.
ونذكر هنا أيضاً في سياق محاولاتها المحمومة للعب على ورقة المياه من أجل الابتزاز السياسي، إعلان أنقرة في نهاية عام 2010 عن توصلها مع الجانب الإسرائيلي الذي يعاني أزمة مياه إلى اتفاق تبيع بموجبه خمسين مليون متر مكعب من المياه سنوياً إلى «إسرائيل» مدة عشرين عاماً، ناهيك بمشروع تأمين المياه للشطر الشمالي من قبرص التي تسيطر عليه تركيا المعروف بـ«مشروع القرن» وكل ذلك على حساب الحصة العربية من المياه، هذا عدا عن السدود التي تشيدها تركيا على أراضيها.
وفي هذا السياق نشير إلى أن السيطرة على المياه العربية تعد هدفاً استراتيجياً للكيان الإسرائيلي الاحتلالي وأن مطامع «إسرائيل» كبيرة جدا ًوخطرة من حيث استخدامها للمياه كعنصر أساس في الصراع العربي – الإسرائيلي، لارتباط المياه بخطط «إسرائيل» التوسعية والاستيطانية في الأراضي العربية، ومن هنا نجد أطماعها في الموارد المائية العربية كنهر الأردن وروافده ونهر اليرموك وينابيع المياه في الجولان السوري المحتل وأنهار الليطاني والحاصباني والوزاني في لبنان.
أما بشأن سرقة الكيان الصهيوني للمياه العربية كهدف حيوي في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية فنابعة من القيمة الكبرى التي تعطيها خرائط الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة للمياه ومواردها من حيث استقطاب المستوطنين الجدد وتوسيع رقعه الأرض الزراعية، ومن أجل ذلك يعمد إلى سرقة المياه الجوفية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويسعى لجرِّ مياه النيل، وهنا نجد أن تحركه المشبوه في دول حوض النيل يأتي للضغط على مصر لإيصال مياه النيل إلى الأراضي المحتلة.
ونلفت الانتباه إلى أنّ أغلبية مصادر المياه المسروقة إسرائيلياً مشتركة مع دولة مجاورة واحدة أو أكثر، بحيث يتشارك في حوض نهر الأردن (الأردن، لبنان، سورية، وفلسطين المحتلة)، ونشير إلى أن مسألة تقاسم مياه نهر الأردن مع الكيان الصهيوني شكّلت موضوعاً لمفاوضات مطوّلة دامت عقوداً، وأسفرت عن توقيع اتفاقيتي وادي عربة وأوسلو وكان هناك إجحاف كامل بحقّ العرب في موضوع تقاسم المياه نتيجة هذه الاتفاقيات، كما أن الاحتلال الإسرائيلي يسيطر على عدد من أهم وأغنى منابع المياه في المنطقة العربية.
ونذكر أيضاً أن اليهود قبل إقامة كيانهم الاحتلالي أقاموا مجموعة من المشروعات المائية تؤشر إلى اهتمامهم المبكر بمسألة المياه، مثل تجفيف بحيرة الحولة، ومشروع روتنبرغ لاستخدام مياه نهري الأردن واليرموك عام 1927، ومشروع يونيديدس عام 1938 لدراسة المياه في فلسطين، ومشروع لادور ميلك عام 1944 لدراسة الموارد المائية في فلسطين وإمكانية استخدامها، ومشروع هيز عام 1946، كما أن الكيان الصهيوني أعد في 1948 دراسات ومشاريع لاقتسام وتنظيم استخدام نهر الأردن وحوضه أهمها مشروع جونستون عام 1955، وقام بنقل جزء كبير من مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب، ويقوم الآن بسرقة مياه قطاع غزة عبر أنابيب توصيل تنقلها إلى منطقة بئر السبع، ومشروع كونون الذي جاء في أعقاب الاعتراض على مشروع جونستون.
ومن الأخطار التي سيكون لها تأثير واضح في الأمن المائي العربي في الجانب الإفريقي، توجه أثيوبيا بدعم مباشر من الكيان الصهيوني ودول غربية إلى إقامة سدود على نهر النيل في منطقة المنبع بسعة تخزينية تهدد أمن مصر والسودان المائي، إذ يعد سد الألفية الكبير أو ما يعرف بسد «النهضة» الأخطر على مصالح البلدين العربيين المائية، ففي تقرير أعدته لجنة متخصصة من 20 خبيراً شكلتها الحكومة المصرية كشف خطورة إنشاء سد النهضة على الأمن المائي لمصر، لأثره الواضح في التقليل من إيرادات مياه النيل إلى السد العالي تصل إلى نحو 45 مليار متر مكعب خلال 4 سنوات، وتالياً إحداث عجز مائي سيؤدي إلى انخفاض توليد الطاقة الكهربائية المصرية بنقص يقدر بـ 37%، وإلى عجز كلي مع مرور الزمن.
أما ما يخص مصر والسودان معاً فإنه يهدد بحدوث مخاطر وتحديات محتملة على الأمن المائي لكلا البلدين، إذ في الفترة الزمنية المطلوبة لملء خزانه، سيحتاج السد العالي إلى كميات كبيرة من مياه النيل الأزرق المنتهية إلى السودان ومصر، فتقل بذلك حصتهما من تدفق النيل بشكل ملحوظ خلال تلك الفترة وما يليها على مدى أعوام بسبب تراجع المنسوب إلى أقل من المتوسط العام، وسيتسبب بخسارتهما كمية كبيرة من المياه تتراوح بين خمسة عشر وخمسة وعشرين مليار متر مكعب، وتالياً نقص مخزون المياه خلف السد ، وهذا بدوره سينعكس سلباً على الطاقة الكهربائية المتولدة منه، وتخسر مصر ما يتراوح بين 20 و 40 %، بحسب خبراء في مجال المياه، ويكمن هنا تأثير بناء سد النهضة -الذي أوشكت إثيوبيا على استكمال بناء الجزء الأوسط منه- في حياة أكثر من 90 مليون مواطن عربي، أي أكثر من ثلث العالم العربي، إذ يهدد بفقدان آلاف الدونمات لأغلبية مواردها المائية ما يهدد بدخولها في مرحلة الجفاف المائي، ناهيك بأثره المباشر على القطاعين الاقتصادي والاجتماعي وبعد ذلك سياسياً، إذ، وبحسب الخبراء، فإن إثيوبيا لا تعترف أصلاً بحقوق دول المصب، لذلك تعتزم إنشاء أربعة سدود على النيل الأزرق يكون سد النهضة بدايتها، وتريد تعديل اتفاقيات توزيع مياه النيل القديمة لمصلحتها على حساب مصر والسودان من خلال التوقيع على اتفاقية «عنتيبي»، لذلك فإن إنشاء سد النهضة يثير قضايا جيو- سياسية أكثر منها مائية أو اقتصادية أو جيولوجية، فالأعراف الدولية والقانون الدولي بهذا الشأن ينص على وقف الأعمال محل الخلاف في حال النزاع بين دولتين لحين الفصل في النزاع، وهو ما لم تلتزم به إثيوبيا تجاه مصر، رغم المفاوضات بين الطرفين.
ولكي نضع حداً لهذه التهديدات ينبغي نبذ الخلافات العربية- العربية، والتحرك الجدي والسريع للرد على التعرض للأمن المائي العربي ودرء المخاطر التي باتت حقيقة واقعة تهدد أمننا القومي، فهل المؤشرات توحي بإمكانية هذا التحرك ؟ وهل في حال حصوله ستكون له نتائج مفيدة في ظل الظروف الراهنة؟ أم إن المستقبل يخبئ لنا مفاجآت إن لم يتم العمل على معالجتها فسندفع أثماناً باهظة نحن العرب جميعاً ؟!.
The post الاعتداء على المياه العربية أزمة متعمدة تهدد الأمن القومي العربي appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.