تتحفُنا الفضائيات العربية بحشد من الأشخاص الذين تحلّيهم هذه الفضائيات بلقب (المفكّر) وفي هذه التحلية التي تبدو تحلية مجانية يغدقها التلفزيون، ويغدقها (المفكرون) على أنفسهم بسخاء غير محسوب، تؤدّي -في جملة ما تؤدي إليه- إلى إفراغ الكلمة من محتواها ومختلف دلالاتها التي كانت حركة الثقافة قد أطلقتها، ورسّختها عبر العصور. والمؤكّد في استعراف الجنس البشري أنّ الإنسان كائن يمارس التفكير، بمن في ذلك الأشخاص المبتلون بآفات ذهنية. وظلّت سمة التفكير وقفاً على البشر إلى أن اكتشف العلم الحديث وجود حيوانات تمارس التفكير، حتى لو كان مستوى تفكيرها أدنى من مستوى تفكير الإنسان الذي صار يُعرّف بأنه الكائن الأرضي الوحيد الذي يمارس التخيّل.
ما يُثار في هذا السياق يخرج بطبيعة الحال عن الدلالة اللغوية المعروفة لكلمة (المفكّر) التي منحها العصر الحديث واتّساع حركة المثاقفة مع الغرب وعمق هذه الحركة دلالةً اصطلاحية أخرجتْها من قفصها المعجمي المحدود، وأطلقتها لوسم عدد من العباقرة الذين أنتجوا أفكاراً جديدة في خضمّ الحياة، ولا يكتسب أيّ من هؤلاء صفة (المفكّر) إلا بعد أن تكون أفكاره قد انتشرت على نطاق ملحوظ داخل الحياة الاجتماعية والدائرة الثقافية التي تؤطّره، وتؤطر مجموعته الثقافية/اللغوية التي ينتمي إليها، وبعد أن يباشر عدد ملحوظ من البشر تداولَ أفكاره المنتشرة، ومناقشتها في سياقي القبول والرفض، على حد سواء.
نعم.. المفكّر هو فقط ذلك الذي ينتج أفكاراً يجري تداولُها على نطاق ملحوظ، بما في ذلك عرضها في الكتب المدرسية ضمن المرحلة الدراسية المناسبة لعرضها، وعلى هذا الأساس (الاصطلاحي) يجب أن نتحرّى حدود الكلمة المنفتحة على مفهوم واسع، وأن نضبط عملية إطلاقها، واستعمالها عبر وسائل الإعلام المرئية المسموعة، لنحمي حياتنا، وحياة أجيالنا الجديدة من إثقالها بعدد من العاهات البشرية (المفكّرة) التي تفرضها وسائل الإعلام سقفاً شديد الوطاءة والانخفاض لوأد ما نفترضه آفاقاً رحبة لتفتّح الفكر، وتوثّبات الإبداع.
لا تعرف الحياة مفكّراً سمّى نفسه مفكّراً، ولا كاتباً كبيراً سمّى نفسه كبيراً. حركة الثقافة وسيرورة الحياة هما ما يمنح الشخص المبدع سمته المناسبة.
وفي تشعيب مشكلة اكتظاظ حياتنا (الفقيرة) بالمفكّرين على نطاقينا العربي والسوري نطوف داخل ما يشبه المتاهة المنفلشة في شتى الاتجاهات. ولكي نظلّ في حدود ما نحن فيه تجبهُنا مسألة التلفزيون ومسألة سرد السيرة الذاتية لهذا الكاتب (الكبير) أو ذلك المفكر (العظيم)، فالتلفزيون يُستعمل منفاخاً فظيعاً يضخّ المزيد من الورم في ذوي العقول المتورّمة من كثرة الغرور وفداحة الشعور بالأهمية. وهناك دوماً مشكلة تنجم عن تغذية الغرور المتورّم إلى حدود مريبة بالمزيد من الورم الذي كان المتنبي قد حذّرنا من التباسه بالشحم في بيته المشهور الذي يعرّض بكل شخص (شحمهُ ورمُ). أمّا السيرة الذاتية التي يرويها كل منفوخ عن نفسه عبر شاشة التلفزيون وعبر الكتابة ففيها يطلق السارد عن نفسه ما شاء أن يطلقه من غير حسيب ولا رقيب. وما أكثر السير الذاتية التي دوّنها عن أنفسهم أشخاص لم يرفدوا الحياة بشيء، ومع ذلك ينسبون إلى أنفسهم في مدوّناتهم جميع ما تعلّق بتسيير دفّة الحياة وقيادة تلك الدفّة.
أفترض أن نطاقنا السوري لا يختلف موضوع اكتظاظه الإعلامي بالمفكّرين الأفذاذ عن سواه في المنطقة، إذ لا يكفي (المفكّر) لكي يكون مفكّراً إسناد جبهته على أصابع كفه أو وضع سبّابة يده على خدّه. وفي سياق التعليق على بعض أولئك الذين طفوا في السنوات الأخيرة على سطح المشهد الإعلامي العربي بوصفهم مفكرين (أفذاذاً وخطيرين) قال الشاعر السوري وفيق خنسا: اذهبْ إلى أكثر مناطق العالم تخلّفاً ثقافياً، وبؤساً حضاريّاً، وأخبرهم بأن فلان الفلاني يُصنّف في بلادنا مفكراً لسخر منك الجميع، ونظروا إليك نظرة المشفق الأسيان.
The post آفاق.. منفاخ المفكّرين appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.