سال حبر كثير في عرض وتحليل قضية الهجوم العسكري الذي قاده ابراهيم الجضران على منطقة الهلال النفطي (شرق ليبيا) وسيطرته عليها مدة أسبوع قبل أن تعلن قوات خليفة حفتر (ما يسمى الجيش الوطني الليبي) استعادتها وطرد المهاجمين منها وعلى رأسهم الجضران.
مساحات واسعة أفردتها الفضائيات (الخليجية تحديداً) لتغطية الحدث، مستضيفة محللين وخبراء وميدانيين وعسكريين (وشهود عيان) من كل مكان لـ «تفهيمنا» ما حدث ويحدث وسيحدث.. رغم أننا-والجميع- يفهم تماماً القصة من ألفها إلى يائها.. القصة هي نفسها واحدة في كل دول الخراب العربي (وغيرها من الدول العربية المشابهة لها قبل الربيع العربي).. الخارج أو الغرب يصنع الأزمة – بالحرب أو بالاقتصاد – يقلب عاليها سافلها «يخربها» كما نقول في عاميتنا ويجلس على تلّتها ليطرح نفسه وسيطاً للحل. يجلس مستريحاً بانتظار قدوم الجميع إليه مستنجدين مستغيثين.. يأخذهم إلى طاولة مستديرة أو مستطيلة لا فرق.. إلى غرف مغلقة أو مفتوحة لا فرق أيضاً.. ويبدأ التفاوض والضغط والابتزاز فهذا الخارج يريد حصته كاملة.. و«كاملة» تعني كل شيء، ليكون المطلوب من الأطراف الداخلية المتناحرة – كل حسب ولاءاته وأرباب نعمته – أن تدير مصالح الخارج (المتناحر أيضاً على المغانم والمكاسب)، وبالتالي الاتفاق النهائي المطلوب يكون بتقاسم الخارج للحصص ثم إدارة هذه الحصص من قبل الأطراف الداخلية (كل دولة لها طرف) هذا أولاً، ثم منع هذه الأطراف من التناحر والاقتتال ثانياً (وأحياناً دفعها للاقتتال في حال لم تجر رياح التفاوض بما تشتهي سفن الخارج).
.. هذه هي القصة وما فيها، ونحن إذ نرويها أو نكررها ليس من باب أننا «اكتشفنا البارود» بل هي جلية واضحة من أولها وبكل فصولها ولا ينكرها إلا أعمى بصيرة، ومع ذلك يصر الإعلام الخليجي على استغباء المشاهد العربي وتقديم قصص مزيفة مضللة له عما يجري، وإظهار الوضع في ليبيا وكأنه اقتتال داخلي لا علاقة له بالأطراف الخارجية التي تريد السلام والأمن فقط لا غير للشعب الليبي!!.
في دول الخراب العربي لم يحدث حتى الآن أن اتفقت الأطراف الخارجية على حصصها، وعليه يستمر الخراب قائماً بين اقتتال وأزمات اقتصادية وسياسية.. وإرهاب.
وفي ليبيا.. الأربعة مجتمعة
ولأن «هذه هي القصة وما فيها » فإن عرضنا الأساس سيتركز على المرحلة الجديدة في التحاصص الخارجي التي دشنها الجضران بهجومه الأخير، وما الذي أراده الطرف الذي يقف وراءه، وهل كان المطلوب هو الهجوم فقط وليس دوام السيطرة.. ولماذا؟
بقدر ما هي الدول العديدة المتدخلة في ليبيا على عجلة من أمرها لتحقيق نتائج ملموسة على مستوى التوافق السياسي الداخلي، بقدر ما تجد نفسها مُجبرة على التوقف والانتظار كلما جدَّ جديد في الميدان العسكري بقيادة أحد الأطراف الليبية المحسوبة على هذه الدولة أو تلك، وهذا هو الوضع حالياً.. توقف بانتظار جلاء غبار ما بعد هجوم الجضران على منطقة الهلال النفطي، ولن يدوم التوقف طويلاً في ظل أن كل طرف خارجي مطالبه معروفة ومعروضة بما فيها الطرف الذي يدعم الجضران.. إذاً، إلى الغرف المغلقة دُرْ .. لإعادة التفاوض والتفاهم.
بين المتدخلين والمتضررين
بالنسبة للخارج، ليبيا هي فقط حقول وموانئ نفطية ولا شيء آخر، وللتوضيح عندما نتحدث عن الخارج فإنه يجب علينا التمييز بين مستويين:
الأول هو الدول المتضررة من استمرار الاضطرابات في ليبيا ميدانياً وسياسياً، وهي في مجملها دول الجوار العربية بالدرجة الأولى وأكثر ما تخشاه هو تدفق مزيد من الإرهابيين إليها (من «داعش» و«النصرة» وأنصار الشريعة وغيرها كثير من الفصائل الإرهابية التي تشكلت وتناسلت واستعصت بالأرض وتتلقى من الدعم ما يكفي ويزيد ومن الدول نفسها المعروفة بدعم الإرهاب على الساحة العربية مثل قطر والإمارات والسعودية وتركيا).. دول الجوار تستعجل الحل في ليبيا وقدمت العديد من المبادرات وعملت على جمع الأطراف الليبية المتناحرة أكثر من مرة وفي أكثر من دولة لكنها لم تنجح باستثناء (اتفاق الصخيرات 2015 الذي وقعت عليه الأطراف الليبية وحتى الآن لم يأخذ طريقه للتنفيذ) ولا تزال محاولات دول الجوار مستمرة.
المستوى الثاني هو الدول التي قادت أو دعمت أو أيدت أو سهّلت أو شاركت في غزو ليبيا عام 2011 على يد «ناتو» ومنها:
– فرنسا التي تسعى حالياً للتفرد بساحة المبادرات السياسية وتتنافس بشراسة مع إيطاليا، فيما تبدو الولايات المتحدة تميل إلى الأولى ضد الثانية.
– مشيخات الخليج: الإمارات، قطر، السعودية، وجميعنا يعرف دورها وراء غزو ودمار ليبيا.. هذا الدور ما زال مستمراً، الفرق فقط أنها لم تعد موحدة كما كان الحال عندما أجبرت الجميع في الجامعة العربية (في شباط 2011) على الطلب من الـ«ناتو» التدخل عسكرياً ضد ليبيا، فمنذ أن وضع هذا الغزو أوزاره (بعد 7 أشهر من التدخل) بدأ الصراع بين هذه المشيخات على الساحة الليبية، فكل منها يدعم فصيلاً مسلحاً ويقاتل به للسيطرة على أكبر قدر من الجغرافيا حيث تتركز حقول النفط وموانئ تصديره، لذلك عندما ظهر الجضران مرة أخرى (فجأة) وهاجم منطقة الهلال النفطي وسيطر عليها كان الحديث الأبرز، أو بعبارة أدق السؤال الرئيس هو: من يقف وراء الجضران؟ .. وتعددت الإجابات، بعضهم أكد أن قطر هي الممول والمحرض وهي من أعطت إشارة الهجوم ثم الانسحاب، وبعضهم قال: إن فرنسا نفسها هي من يقف وراء هذا الهجوم الذي أريد منه أن يكون خاطفاً مباغتاً يقلب المشهد الليبي بمواجهة: أولاً الخصوم ممن يدعم هذا الطرف أو ذاك . ثانياً: من يماطل ويناور من الأطراف الليبية (وداعميها) في مسألة الاستجابة لشروط التفاوض الفرنسية.
فرنسا والجضران
كقراءة وتحليل، تم وضع الهجوم الذي قاده الجضران في سياقين:
الأول يتمثل في تخلي الأطراف الدولية الداعمة لحفتر عنه وعلى رأسها فرنسا لمصلحة كل من: 1 – خصمه غير المباشر فايز السراج رئيس ما يسمى حكومة الوفاق (المعترف بها دولياً).
2- خصمه المباشر الرئيسي عضو مجلس الدولة عن مدينة مصراته أبو القاسم قزيط، الذي أعلن في 16 حزيران الجاري، أي بعد هجوم الجضران بيومين، أنه تلقّى دعوة خاصة من فرنسا للسفر إليها والاطلاع على الجهود السياسية الجارية لحل الأزمة الليبية.
فرنسا حسب التسريبات تريد معاقبة حفتر على عدم تجاوبه (وداعميه الخليجيين) مع المبادرات الفرنسية خصوصاً لقاءي (باريس 1 تموز 2017) و( باريس أيار 2018 الجاري) فقررت توجيه ضربة قاصمة له ولهم من خلال الهجوم على منطقة الهلال النفطي التي تمثل المنفذ الأول لوصول النفط الليبي إلى أوروبا، عدا عن أن القاعدة الجوية الوحيدة التي يستخدمها حفتر كمنطلق لمعاركه موجودة في الهلال النفطي (في راس لانوف).. ويدلل المراقبون على صحة هذه القراءة ببيان الإدانة الخجول الذي أصدرته فرنسا ضد هجوم الجضران (وبشكل عام مجمل ردود الفعل الدولية لم تكن بالمستوى المطلوب – باستنثاء الإمارات الداعمة لحفتر والتي زجت بكامل ماكينتها الإعلامية دعماً له).
السياق الثاني وهو أن فرنسا أرادت فقط «لفت نظر» حفتر وداعميه إلى أنها بإشارة واحدة تستطيع تحويل حفتر إلى «ورقة محروقة»، وبإشارة ثانية تعيده «ورقة جديدة» وما عليهم سوى الاستجابة لما تريده عبر تأييد «لقاء باريس 2».
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يخسر فيها حفتر منطقة الهلال النفطي على يد الجضران نفسه، وفي كل مرة كان يعجز عن استردادها لولا المساعدة العسكرية من قبل الداعمين له جواً وعلى الأرض.
مسألة «لفت النظر» تلك تؤيدها تسريبات تقول: إن فرنسا نفسها ساعدت حفتر في معركة استعادة الهلال النفطي عبر طائرات الاستطلاع التي سيّرتها في أجواء المنطقة.
الجضران.. الأمس واليوم
يشار إلى أن الجضران ليس اسماً عابراً أو هامشياً على الساحة الليبية، فقد كان يقود ما يسمى فرع المنطقة الوسطى لـ «حرس المنشآت النفطية» لمدة ثلاث سنوات قبل أن يأتي حفتر ويقصيه حضوراً ونفوذاً.
ينتمي الجضران (35 عاماً) إلى قبيلة المغاربة، وهي من أهم القبائل في الشرق الليبي وفي أجدابيا وتقطن في المناطق المحيطة بالموانئ النفطية. وهو من دعاة الفيدرالية واقتسام السلطة والثروات بين الأقاليم الرئيسة الثلاثة في البلاد: طرابلس في الغرب، برقة في الشرق (الهلال النفطي)، فزان في الجنوب.
على مدى ثلاث سنوات تحكّم الجضران بنفط المنطقة الوسطى وموانئها (أي السيطرة على مليارات الدولارات من العوائد النفطية) وصعد نجمه بسرعة قياسية على قاعدة دعم قبلي غير مسبوق جعل منه رقماً صعباً على الساحة السياسية، ما دفعه لتأسيس ما يسمى «المكتب السياسي لإقليم برقة» في آب 2013 وطلب تسمية حكومة تابعة له ومضاعفة حصة منطقته (برقة) من النفط وعائداته في إطار مشروع الفيدرالية الذي يطالب به، لكن سرعان ما فقد الدعم القبلي (والدولي) عندما قام منتصف 2013 بإغلاق أهم ميناءين نفطيين في البلاد: السدرة ورأس لانوف، ما أدى إلى تراجع إنتاج النفط إلى مستويات كارثية وخسائر مالية ضخمة، وما زاد الوضع كارثية هو الاقتتال الذي بدأه مع تشكيلات عسكرية في المنطقة الغربية أدت إلى تدمير الجزء الأكبر من البنية التحتية النفطية.
في عام 2014 تضاعفت النزعة الانفصالية للجضران حيث حاول تصدير النفط بعيداً عن السلطة المركزية في طرابلس التي كانت تديرها آنذاك حكومة علي زيدان.. هذا الأمر أدى إلى إسقاط حكومة زيدان وإقالته من منصبه ليخلفه فايز السراج على رأس ما يسمى «حكومة الوفاق» التي توصلت إلى تفاهم مع الجضران استمر حتى مجيء حفتر 2015 (قائداً للجيش الليبي) الذي استطاع بتوافق مع قبيلة الجضران (المغاربة) إقصاءه كلياً وطرده من منطقة الهلال النفطي .. بعدها اختفى الجضران كلياً عن المشهد الليبي لكن قواته التي انسحبت نحو جنوب وغرب البلاد استمرت نشطة حيث شنت هجومين الأول في 12 أيلول 2016 والثاني في 3 آذار 2017، واستطاعت السيطرة على المنطقة لبضعة أيام قبل أن تستعيدها قوات حفتر بمساعدة خليجية ودولية، أما الهجوم الأخير وهو الثالث (14 حزيران الجاري) فقد قاده الجضران بنفسه وسيطر على منطقة الهلال النفطي أسبوعاً قبل أن تعلن قوات حفتر استعادتها مجدداً وطرد الجضران منها.
.. لكن حسب المراقبين، فإن الأمور لم تنته بعد وهذا الهجوم له خلفياته وتداعياته.. وعلى الأرض هناك من يتحدث عن أن المعارك لم تنته بعد.
في الداخل الليبي ماذا يقولون عن هجوم الجضران؟
1- معارك الهلال النفطي هي معارك سياسية أكثر منها عسكرية، هدفها عرقلة التقدم الذي يحرزه حفتر خصوصاً في درنة.
2- التشويش على ملف الانتخابات المقترحة في 10 كانون الأول المقبل.. هذا الملف يحضر بقوة على الساحة الليبية، أي أن هجوم الجضران – ومن يدعمه خارجياً – هو نوع من الابتزاز لحجز دور في هذه الانتخابات.
3- التأثير بصورة أساسية في صورة حفتر الذي يقدم نفسه كـ «محارب للإرهاب»، فالهجوم على منطقة الهلال النفطي يضعه بلا شك في موقف صعب ويظهر ضعفاً في قدرته على الاحتفاظ بالسيطرة عليها أو على المناطق التي «يحررها».
4- يتهم أنصار حفتر كلاً من قطر وتركيا وإيطاليا بدعم الجضران وتحريضه على مهاجمة الهلال النفطي لأنه السبيل الوحيد لإفشال المبادرات الفرنسية و«لقاء باريس2» وذلك في إطار صراعها المتصاعد مع فرنسا على نفط ليبيا، ويروي عضو «لجنة الدفاع القومي في مجلس النواب» طارق الجروشي كيف أن إيطاليا استدعت فايز السراج وأجبرته على توقيع مذكرة تفاهم لإرسال البوارج الايطالية إلى السواحل الليبية، وكيف أن تركيا وقطر أجبرتا «رئيس المجلس الاستشاري» خالد المشري على التنصل من مخرجات «باريس2» وهذا ما أكده المشري نفسه في تصريحات له وراء الكواليس.
5- لا يؤمن حفتر بالحلول السياسية، وهو يؤكد مراراً أن الحل العسكري هو القادر على استعادة البلاد وتوحيدها، لكن الهجمات المتكررة، على منطقة الهلال النفطي تحديداً، تكاد تحول هذه القاعدة إلى عملية قاتلة لمطامع ومطامح حفتر، فأي خسارة في منطقة الهلال النفطي تحديداً ستفقده ورقة الضغط الأهم، وهي ورقة سياسية بحتة وإن كانت قاعدتها عسكرية.. هذا ونحن لم نتحدث بعد عن ورقة القبائل التي يسعى لاستمالتها خصوصاً الكبيرة منها مثل قبيلة المغاربة والزوي وأولاد سليمان، فخسارة أي منها تنذر بحرب قبلية جديدة لن يكون بمقدور حفتر الفوز فيها.
ماذا يقول الجضران؟
– عقب الهجوم مباشرة أعلن الجضران عن أن هدفه استرجاع الحقوق ورفع الظلم وإعادة المهجرين من أبناء قبيلته والقبائل الأخرى الذين وعد حفتر بإعادتهم ثم نكث بوعده، وقال: عودتنا إلى منطقة الهلال النفطي ليست بغرض الانتقام.. لم نرتكب جرائم حرب.. لم نعتدِ على أحد.. ولم تتم عمليات اعتقال أو مداهمة.
وأضاف: أبناء قبيلة المغاربة قرروا العودة إلى ديارهم وهي ليست عودة موجهة ضد شركائنا في الوطن.. الحقول والموانئ النفطية مفتوحة وتحت شرعية حكومة الوفاق ومؤسسة النفط الوطنية.. نحن لا ننتقم من أحد ونطالب بالمساءلة القانونية عن الأحداث السابقة (وكان الجضران قد أعلن تبعيته لحكومة الوفاق التي وصفها بأنها الجهة الشرعية والمعترف بها دولياً لكنها تنصلت منه وأدانت هجمومه).
– يقول أنصار الجضران أنهم لم يتسببوا في اشتعال خزانات النفط وإنما قوات حفتر هي من فعلت ذلك لأنها استخدمت الطيران والقصف الجوي لاستعادة المنطقة، ولم تجر أي معارك على الأرض.
– أنصار الجضران يتحدثون عنه كأحد القادة المطالبين باستقلال إقليم برقة تحت شعار «العدالة في توزيع الثروة النفطية والتخلص من الإدارة المركزية في طرابلس».
ماذا بعد؟
في كل الأحوال، انتهى هجوم الجضران، فهل عادت الأوضاع إلى حالها السابق؟ من ربح ومن خسر- داخلياً وخارجياً – وهل ذلك الهجوم سيكون الأخير؟ وأين الأمم المتحدة ووسيطها غسان سلامة؟
كل هذه الأسئلة ليست جديدة فهي تخرج مع كل تحرك عسكري مضاد من قبل أحد الأطراف ضد طرف آخر.. ومع كل تحرك كانت هناك أجوبة مختلفة وخرائط نفوذ جديدة.. وللحصول على أجوبة عن أسئلة ما بعد هجوم الجضران الأخير لا بد من الانتظار لبعض الوقت.. الأجوبة ستخرج وحدها.. تكفي مراقبة ردود فعل الخارج وما سيتخذه من خطوات علنية متمثلة بمبادرات ولقاءات ودعوات لنعرف هذه الأجوبة.. حتى تلك المخفية نستطيع معرفتها، فالقصة في دول الخراب العربي معروفة ومكرورة وما نفعله في كل مرة هو سردها فقط.
Posted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.