من العبث الشائع التعامل مع وكالة الفضاء «ناسا» وكأنها مؤسسة علمية محايدة أو أممية الطابع.
«ناسا» هي وكالة الفضاء (الأمريكية)، وتأسيسها في 1958 بزمن «أيزنهاور» كان تحت عنوان عريض مرتبط مباشرة بالصراع مع الاتحاد السوفييتي، وذلك جاء بعد أن نجح السوفييت في إطلاق أول قمر صنعه الإنسان من الأرض ليسبح في الفضاء في 4 تشرين الأول 1957، تحت اسم «سبوتنيك 1» من منصة إطلاق في كازخستان، وقبل هذه العملية كان الأمريكيون يعتقدون بتفوقهم في أبحاث الفضاء وعلوم الصواريخ، لكن هذا السبق الذي حققه السوفييت، كشف عكس ذلك، وهذا تسبب في الولايات المتحدة الأمريكية بما يسمى «أزمة سبوتنيك» أو «صدمة سبوتنيك» حيث مثّل الأمر صدمة فعلية في ظل تفوق الاتحاد السوفييتي عليهم، وتمكنه من إطلاق أول قمر صناعي للفضاء، وسيتكرر التميز في نيسان 1961 مع إرسال «يوري غاغارين» للفضاء ليصبح أول إنسان يتمكن من الطيران إلى الفضاء الخارجي والدوران حول الأرض على متن مركبة الفضاء السوفييتية (فوستوك1).
بسبب صفعة «سبوتنيك» على الوجه الأمريكي في خريف 1957، قررت واشنطن إنشاء وكالة مشروعات أبحاث الدفاع المتقدمة «داربا» في ولاية فرجينيا، وتتبع لوزارة الدفاع الأمريكية حتى اليوم، ومهمتها -منذ التأسيس- الحيلولة دون أي تقدم تقني عالمي يضر بـ«الأمن القومي الأمريكي»، أو يهز من وضعها كدولة رائدة في مجالات العلوم والتقنية.. وتعدّ «داربا»، إلى اليوم، ممولاً رئيساً لتقنيات عديدة على مستوى العالم، ويتضمن ذلك شبكات الحاسب الآلي إضافة إلى أنظمة للعمل على «الإنترنت»، كما تشتبك في المجالات الطبية، ولها أبحاث خطيرة في هذا المجال.
ثم في 29 تموز، 1958 وافق الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور على إنشاء «ناسا» من رحم «داربا» بحيث أصبحت مسؤولة عن تنفيذ برامج الفضاء ((الأمريكية)) ومتخصصة في ذلك.
ناسا ليست وكالة علمية تتبع مؤسسة أممية، «ناسا» هي الإدارة الوطنية -الأمريكية- للملاحة الجوية والفضاء، وهي وكالة تابعة لـ (حكومة الولايات المتحدة الأمريكية). وهي المسؤولة عن البرنامج الفضائي للولايات المتحدة، وهي أيضاً مسؤولة عن الأبحاث المدنية والعسكرية الفضائية طويلة المدى، ومتشابكة تماما في استراتيجية عملها مع «داربا» التي تتبع وزارة الدفاع الأمريكية، وتتحرك تحت شعار: «ضمان التفوق والهيمنة الأمريكية».
من المناسب هنا التذكير بأن الرئيس آيزنهاور، الذي حكم من 1953 وحتى 1961، هو جنرال وقائد عسكري في الحرب العالمية الثانية، وعند توليه الحكم ناصب العداء لمشروعات التحرر العربية، وفي القلب منها مشروع جمال عبد الناصر.. وفي عهده أسس جون فوستر دالاس وزير الخارجية آنذاك «حلف بغداد» لخدمة مصالح الناهب الغربي تحت راية «إسلامية».. كما تأسس «مجلس الكنائس العالمي» للأغراض ذاتها.. وآيزنهاور هو الذي أطلق «المبدأ» الاستعماري القائل بأحقية الولايات المتحدة بالتدخل في أي دولة عربية وبـ«الشرق الأوسط» لتعبئة الفراغ الذي تركه رحيل الاستعمار الأوروبي، وللحيلولة دون تحالفها مع السوفييت أو لقطع الطريق على تمدد الروح الثورية العربية إليها.. وقد حث آيزنهاور النظام التركي العميل -حين كان عدنان مندريس رئيسا للوزراء- على مهاجمة سورية في 1957، كما حرك آيزنهاور القوات الأمريكية فعلاً، وبالتعاون مع أنقرة، إلى لبنان في تموز 1958 لنصرة الرئيس اللبناني كميل شمعون (حليف الغرب وعميله) ضد معارضيه.
على مستوى أممي دعم آيزنهاور بكل قوة المستعمر الفرنسي في حربه التي كانت مستمرة من 1946 وبقيت حتى 1954 مع الشيوعيين الفييتناميين (بزعامة هوتشي منه) الذين قادوا مهمة التحرر الوطني هناك، بينما سمي بـ«الحرب الهندوصينية الأولى»، والتي تركزت في شمال البلاد.. وبعد انتصار المقاومة الفييتنامية وتأكيد الاستقلال فعلياً، قامت واشنطن وباريس بتقديم الدعم لحكومة جنوب فييتنام لمنع تحقيق الوحدة ولغرس حكومة عميلة لها.. كما أن آيزنهاور هو الذي أعطى الأمر للمخابرات الأمريكية بغرض التعاون في مهمة إسقاط حكومة محمد مصدق الوطنية في إيران بعد قراراتها بتأميم النفط وتم الإسقاط في آب 1953.. كذلك دعم الانقلاب في غواتيمالا عام 1954 ضد رئيسها الجنرال «أربنيز» الذي قام بتوزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين وبدأ في رسم خط مستقل واشتراكي، فشكلت واشنطن قوة عسكرية من المرتزقة وسلحتها حتى تم إسقاط الجنرال أربنيز، ثم تدخل الجيش الأمريكي وحشد مزيداً من المرتزقة بغرض تثبيت تلك الحكومة العميلة في وجه محاولات الاشتراكيين والوطنيين لاسترداد الحكم.. كذلك في نيسان 1961 قبل رحيل آيزنهاور حصلت عملية «غزو خليج الخنازير» الفاشلة حين دربت الـ«سي آي إيه» عدداً من الكوبيين المنفيين لغزو جنوب كوبا وقلب النظام على فيدل كاسترو.
.. إضافة لما سبق، تابع آيزنهاور على خط العداء لكوريا الديمقراطية، ودعم كوريا الجنوبية لتكون قاعدة للمصالح الأمريكية في شرق آسيا، وآيزنهاور صعد للحكم على خلفية الحرب الإجرامية التي شنتها واشنطن في شبه الجزيرة الكورية من 1950-1953، لمنع توحيدها تحت راية كيم إيل سونج والحزب الشيوعي، وكانت حرباً عدوانية حقيقية استخدمت فيها جميع الأسلحة الإجرامية لتثبيت انفصال شبه الجزيرة الكورية بعد أن كان الشماليون قد وحدوها تقريباً، كما أن آيزنهاور واصل رفض الاعتراف بماو تسي تونج والنظام الصيني الذي تولى الأمر منذ 1949، مقدماً الدعم للحكومة المخلوعة التي حطت رحالها في تايوان عاداً إياها «الحكومة الشرعية»، وفي هذا السياق هدد آيزنهاور الصينيين (ماو ورفاقه) باستخدام النووي ضدهم!!.. وذلك غيض من فيض.
كاتب من مصر
Posted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.