هل حان الوقت لثورات «الربيع الأوروبي» أن تنطلق؟
سؤال أصبح يراود عدداً كبيراً من الباحثين والمفكرين والمهتمين بالشأن الأوروبي، خاصة بعد ما حدث ويحدث في فرنسا، وعلى قدر أقل في بلجيكا وصولاً إلى ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية.
صحيح أن فرنسا تشكل التربة الأخصب لانطلاق مثل هذا الحراك المطلبي، بسبب السياسات الخاطئة المتراكمة للحكومات الفرنسية المتعاقبة على حكم الجمهورية، وإهمالها المتعمد، أو غير المتعمد، لطبقات الشعب وخاصة الطبقتين الوسطى والفقيرة.
ليست المرة الأولى التي يثور فيها الشعب الفرنسي على نظامه السياسي خلال الثلاثين عاماً المنصرمة، بل هي المرة الثالثة أو الرابعة ضد آلان جوبيه ونيكولا ساركوزي- وإيمانويل ماكرون وقبلهم شارل ديغول وإن اختلفت الأسباب المباشرة لانطلاق الاحتجاجات ضد هؤلاء الحكام إلا أن الأسباب الرئيسة العميقة خلف هذه الاحتجاجات كانت دائماً المساس بالأمن الاقتصادي والمعيشي للمواطن الفرنسي وشعوره بالتهميش والإقصاء والتغاضي عن مطالبه الحياتية التي تشكل بالنسبة له الأولوية الأولى والأخيرة.
إن الصيحة المدوية التي أطلقتها مواطنة فرنسية «أشعر بأنني أزداد فقراً» تشكل شعور أغلبية الشعب الفرنسي التي أجمعت استطلاعات الرأي على أن تسعة من كل عشرة فرنسيين يؤيدون الحراك الحاصل إن كانوا حتى هذا التاريخ لم ينخرطوا فعلياً ومباشرة في هذه الاحتجاجات التي يتوقع الجميع أنها في طريقها إلى التطور والاتساع مالم تسارع حكومة مانويل إلى احتوائها أو التراجع عن أسباب اندلاعها والتفكير بطريقة مجدية لتحسين واقع الفرنسيين الذي يزداد تردياً على مر الوقت.
لم يكن الساسة الفرنسيون يتخيلون أنهم سيواجهون أحراراً من قبل ما بات يعرف بحركة «السترات الصفر» على البقاء في الشارع بل الانتشار في أغلب المناطق الفرنسية وصولاً إلى شارع الأليزية والشانزليزيه الأرقى في باريس، وترافق الاحتجاج بأعمال عنف غير مسبوقة منذ ثورة الضواحي الباريسية عام 2005، ولذلك تضاربت تصريحات الساسة الفرنسيين وارتبكت أقوالهم بين من يقول أن لا جهة سياسية خلف هذه التظاهرات ومن يقول: إنها حركة منظمة يقودها محترفون يقفون وراء أعمال الشغب.
في كل الأحوال، وبعيداً عن كل التحليلات والتوقعات، فإن من يعتقد أن الوضع الاقتصادي والمعيشي هو السبب الوحيد وراء هذه الاحتجاجات، وإن كان رئيساً فيها، فإنه مخطئ، لأن الوضع الأوروبي عموماً والفرنسي خاصة يمر بأزمة متفاقمة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك صراع خفي وقد بدأت آثاره تظهر للعيان خلال الفترة الأخيرة بين من يريد الاستقلال عن هيمنة الولايات المتحدة ومن يريد أن يبقى تابعاً لها، لا يملك قراراً مستقلاً ولا حرية الاعتراض على السياسات الأمريكية المفروضة على أوروبا.
وهنا يبرز سؤال: لماذا فرنسا أول المتعرضين لهذا الاضطراب الداخلي وبهذه الحدة مع أن وضعها الاقتصادي المتأزم لا يختلف كثيراً عن قريناتها من الدول الأوروبية التي تعاني أزمات مشابهة إن لم تكن أكثر حدة وعمقاً؟ ولماذا ألمانيا مؤهلة لأن تشهد مثل هذه الاحتجاجات قريباً؟
الجواب واضح وصريح وبسيط وهو أن فرنسا هي أول من طالب بالاستقلال عن السياسات الأمريكية المدمرة، وهي أول من دعا إلى قيام جيش أوروبي مستقل عن حلف شمال الأطلسي «ناتو» الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وقد بدت الخلافات عميقة وحادة بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والفرنسي ايمانويل ماكرون خلال اللقاء الذي جمعهما في باريس بعد إعلان الأخير عن فكرة تشكيل الجيش الأوروبي، وإن تراجع خطوة إلى الوراء في تفسيره لقيام مثل هذا الجيش.
أما ألمانيا المهددة بالاضطراب والإشغال الداخلي فذلك لأنها تدعم الفكرة الفرنسية، وإن كانت بصورة غير معلنة، ولأنها قاطرة الاتحاد الأوروبي الأولى مع باريس بعد خروج بريطانيا من هذا الاتحاد ولديها توق دفين لقيادة أوروبا كقطب مواز للولايات المتحدة والأقطاب الأخرى الصاعدة كروسيا والصين والهند والبرازيل.
فإذا أضفنا إلى كل هذه الأسباب والعوامل عامل شعبية الفكرة الأوروبية التي تعاني مزيداً من التراجع وإحساس شعوب بعض الدول الأوروبية الغنية بأنهم يدفعون فاتورة ما يسمى «الأوروبيين الكسالى» فإن كل ذلك يفسر انتقال التظاهرات من مطلب معيشي حياتي اقتصادي إلى مطلب الخروج من الاتحاد الأوروبي، وإسقاط الرئيس الفرنسي وحل مجلس الشيوخ، وتطاير الشظايا باتجاه بلجيكا ومنها إلى ألمانيا، وربما فيما هو قادم إلى دول أخرى لا تروقها سياسة الهيمنة الأمريكية.
إذاً، بالمحصلة فإن هذه الاحتجاجات بمجملها تبدو غير بريئة بالكامل وإن بدت غير ذلك، وهنا نقول لماكرون، الذي صم آذاننا بدعواته إلى الديمقراطية والحرية لشعوب منطقتنا، وإن مطالبها نزيهة وبعيدة عن التدخل الخارجي والأصابع الأمريكية والفرنسية وغيرها من الدول الأوروبية التي انخرطت في تأجيج الوضع في الشرق الأوسط منذ العام /2011/:«إن طباخ السم لا بد من أن يتذوقه».
Posted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.