إذا كان ثمة تقييم للسياسة الخارجية الأمريكية في عهد إدارة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب فإن أوضح ما يمكن قوله والأكثر صواباً هو سياسة نسف الجسور بعد عبورها وخلط الأوراق وبعثرتها ومن ثم تجميعها من جديد ليسهل اللعب فيها وفق ما تخطط له هذه الإدارة ويصب في مصلحتها حسبما تعتقد.
فعلى عكس ما درجت عليه الإدارات السابقة، وفي عودة إلى حقبة الرئيسين فرانكلين لونكولون وروزفلت في بداية صعود الولايات المتحدة إلى مرتبة الدولة الإمبريالية، فإن سياسة الانغلاق والانكفاء إلى الداخل ورفع الأسوار هي السياسة المتبعة من قبل الإدارة الحالية منذ توليها السلطة بطريقة هي الأكثر التباساً وتخبطاً واضطراباً منذ نشوء هذه الدولة.
فالولايات المتحدة، ومنذ اليوم الأول للمرحلة الترامبية، دأبت على اللعب منفردة وبشكل علني وصريح، وشرعت بنسف كل التزاماتها السابقة حيال الاتفاقات والتعهدات الدولية سواء مع الخصوم أو الحلفاء وحتى مع الحياديين وفق تقييمها ورؤيتها.
لم تكن حالة استثنائية انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من معاهدة باريس للمناخ بالرغم من أنها من أكثر دول العالم تلويثاً للأرض وإضراراً بالغلاف الجوي، ولم يكن أيضاً انسحابها من معاهدة الصواريخ النووية قريبة ومتوسطة المدى حالة عرضية، ولم يكن كذلك انتهاجها سياسية العقوبات التجارية بحق الدول الكبرى وفرض الرسوم والضرائب على الواردات ردّ فعل مؤقتاً، بل إن هذه السياسة أصبحت هدفاً رئيساً له تسويغاته من قبل هذه الإدارة وطاقمها التنفيذي.
إن آخر ما تفكر فيه هذه الإدارة المتسلطة والمتغطرسة هو إقامة جسور التعاون مع دول العالم لرسم مستقبل من الرخاء والازدهار للجميع، وقد أصبح ديدنها الذي لا تحيد عنه وتعمل بكل السبل والوسائل لتحقيقه هو «نحن ومن بعدنا الطوفان».
في هذا السياق من نَسْفِ كل آفاق التعاون والشراكة بين الولايات المتحدة وبقية دول العالم، والإصرارِ على تطبيق نظرية أن يكون القرن الحادي والعشرين قرناً أمريكاً بامتياز ومن دون منازع ولا متعاون ولا شريك، يبدو أن دور المؤسسات المالية الدولية قد وضع على طاولة البحث الترامبية للتنصل منها بعد تيقن هذه الإدارة أن هذه المؤسسات المالية قد أدت دورها في نهب الشعوب والحكومات التي تعاملت معها وكانت بمنزلة الذراع الأخرى للحرب العسكرية والسيطرة الصارخة على ثروات الدول المتعاملة ومقدراتها المالية والاقتصادية، كما يلوح في الأفق مصير البنك الدولي السيئ السيط والذي استقال رئيسه قبل نهاية فترته بثلاث سنوات بالرغم من أن رئاسة البنك الدولي يجب أن تؤول حكماً إلى الولايات المتحدة الأمريكية والقسم الأكبر من عائداته الربوية كانت تصب في خزائنها لكن كل ذلك لم يعد يرضي جشع وطمع هذه الإدارة وجل ما تفكر فيه هو الحصول على الكعكة كاملة من دون أن يقاسمها أحد ولو على الفتات، ولذلك عمدت إلى ترشيح رئيس جديد لهذا البنك يعد من أكثر المتشددين للسياسة النقدية الأمريكية الخاصة والأكثر انتقاداً لسياسة البنك الحالية في خطوة مبيتة للقضاء على هذا البنك من الداخل ما لم يعمل على إرضاء الغرور الأمريكي بالسيطرة المطلقة عليه واستخدامه أداة جديدة لتمرير سياساتها الخاصة وفرضها بطريقة أكثر قسوة ووقاحة مما كانت تقوم عليه شروط البنك سابقاً حيال المقترضين وإجبارهم على تنفيذ الأجندات السياسية والاقتصادية للدول المتنفذة وعلى رأسها الولايات المتحدة.
في المحصلة، وإن كان البنك الدولي يعمل ظاهرياً تحت مظلة الأمم المتحدة ويطلق شعارات مساعدة الدول والبلدان المتعثرة مالياً واقتصادياً للنهوض ومتابعة التقدم، فإن سمعته العالمية، ولاسيما لدى الدول التي جربت التعامل معه والاقتراض منه، تشي بمدى سوء سياسات التدخل في شؤونها الداخلية فضلاً عن حجم الربا الفاضح الذي يترتب عليها دفعه مقابل ما تأخذه من أموال تعجز عن إيفائها فتصبح فريسة سهلة الانقياد والتحريك، وهذا ما أراده العالم الرأسمالي خلال الفترة الماضية من خلال مساهمته المالية الكبيرة في ميزانية البنك.
بقي أن نقول: إنه مهما كان من شأن التنازع الداخلي في البنك الدولي من قبل الدول الرأسمالية المساهمة فيه، والتي تعاونت سابقاً لنهب الشعوب وفرض الهيمنة السياسية عليها من خلال الابتزاز الاقتصادي، فإن بقاء الولايات المتحدة في البنك الدولي أو خروجها منه أو تعديلها شروطه لتصبح أكثر إجحافاً على من يقع فريسة بين براثنه، إن ذلك لن يغير من نظرة دول العالم الكبرى غير الرأسمالية التي تعمل لتكون أقطاباً دولية موازية للولايات المتحدة لهذا البنك، بل إن هذه الدول شرعت منذ فترة ليست بالقصيرة بإيجاد بدائل حالية أكثر رحمة وأقل جشعاً لتقديم المساعدة فيما بينها ولبقية الدول التي تسعى لإخراجها من فلك الولايات المتحدة وحلفائها الرأسماليين، ولنا في مؤسسة بريكس المالية شاهد حي.
The post نسف الجسور appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.