حضور «صندوق الدنيا» أو «الفرجة»، في معرض دمشق الدولي، إلى جانب الفنون المعاصرة وعروض الشركات والتقنيات الحديثة، يعد احتفاء بالتراث وتأصيلاً للذائقة التي لم تعاصر هذا الفن، فهو إلى جانب عدة نشاطات أخرى قدمتها مديرية التراث الشعبي في وزارة الثقافة، شكل مناسبة جميلة للاطلاع على هذا الفن القديم الذي ساد فترة طويلة صنع فيها طقساً شعبياً وخاصة بالنسبة للأطفال حيث جاب القرى والمدن حاملاً حكاياته ورسوماته البسيطة كأنه يدرب الناس على التلقي والسرد بشكل معبر وحيّ.. الفنان زهير البقاعي الذي تولى نبش هذا الفن وتقديم حكاياته للناس من جديد، يرى أن العارض في «صندوق الدنيا» يسمى «المصُورَاتي أبو بلَّورة»، لأنه يروي حكاية الصور التي تمُّر عبر عدسات صندوق الفرجة، والتي تُنار عادة بمصباح يكون داخل الصندوق وخلف الصور، يقابل ذلك في السير الشعبية شخصية الراوي في المقهى الذي يدعى الحكواتي، مثلما هناك في خيال الظل «كراكوز وعيواظ» معلم يسمى في العرف «المخايل» أو «الكراكوزاتي».. فـ «صندوق الدنيا» واحد من ثلاثة أشكالٍ رئيسة للحكاية الشعبيَّة، إضافةً إلى الحكواتي وخيال الظل، في الفترة التي سبقت ظهور وسائل الإعلام في بلاد الشام عامةً، وفي سورية خاصَّة.. وفي هذا الإطار تعد إعادة «صندوق الدنيا» إلى الحياة مرةً أخرى تحدَّياً لمفاعيل العولمة والحرب الثقافية على سورية بهدف طمس التراث والهوية والانتماء.
تُروى للأطفال والكبار حكايات متنوعة عن طريق «صندوق الدنيا» أو الفرجة، الذي له ثلاث أو خمس عدسات، تمرُّ من خلالها صورٌ يحكي حكايتها صاحب الصندوق (المصُورَاتي) كما أحبَّ الفنان زهير البقاعي أن يسميَّه، وقد عُدَّ «صندوق الدنيا» ظاهرة مسرحية في بلاد الشام، قبل ظهور المسرح الحقيقي، أسوة بالظواهر المسرحية الأخرى، كخيال الظل والحكواتي، ومسرح الدمى. ولا تذكر المصادر التاريخية كثيراً عن هذا الشكل من الأداء المسرحي الشعبي الذي كان يعتمد على الصور المرسومة باليد، والمطبوعة الملونة فيما بعد، حيث شاع «صندوق الدنيا» برسومه وصوره وتعليقات صاحب الصندوق، وانتشر أُلهِيَّة للأطفال.
يتألف الصندوق من تشكيل خشبي له جوف، بطول متر وعرض وعمق نصف المتر تقريباً، وفي هذا التشكيل فتحات أماميَّة زجاجية عدة، تُثبَّت فيها بلورات مُكبَّرة، يطلُّ منها مشاهدون ثلاثة أو أربعة، يجلسون على دِكة خشبية، أو على كراسي وطئة، ويضع كل واحد منهم وجهه على إحدى البلورات، لتمرّ الصور المثبتة على ما يشبه دولاب يدور ويلتفّ في جوف الصندوق ويديره صاحب الصندوق من خلال تحريك لولب يدوي من الحديد يتحكَّم بسرعته، وكان يُعلِّق على الصور بتعليقات مرتجلة أو محفوظة عن ظهر قلب، يُغنيها غناءً على الأغلب، وكانت الصور تُري ما يوهم أنها معركة بين دولتين أو قبيلتين مثلاً، أو تُري وجهاً جميلاً لفتاة يسميها صاحب الصندوق عبلة، أو وجهاً أسود لحبيبها عنترة العبسي. وكان مما علق في الذهن من تعليقاته: «تفرج يا سلام، على عبلة يا سلام، على عنتر يا سلام، وصلّ على النبي (ص) محمد خير الأنام».
يتفرّج الأطفال والكبار على عشرات الصور ثم ينتهي العرض، وكان صاحب الصندوق يقبض ثمن العرض نصف قرش سوري «نكلة»، أو رغيفاً من الخبز أو شيئاً من الطعام، وكان يحمل صندوقه على ظهره، ويحمل بإحدى يديه الدكة الخشبية التي يجلس عليها الأطفال أثناء العرض، وينادي على عرضه نداء مُنغَّماً: «عجايبك عجايب»، وبهذا الاسم عُرِفَ الصندوق بين الأطفال، وينتهي العرض أحياناً بدمية يخرجها الرجل من تجويف في الصندوق، ويُلِّوح بها مغنياً: «خلصت الفرجة… خلصت الفرجة»، والأطفال يتضاحكون لمرأى الدمية المنفوشة الشعر التي كانوا يُسمُّونها: «أم شوشة منفوشة».
يُقدَّم العرض خلال أيام معرض دمشق الدولي في جناح وزارة الثقافة، كما تقدِّم مديرية التراث، عبر شاشة عرض سينمائيّة، أفلاماً توثِّق جزءاً من تراثنا الثقافي السوري، وهي عبارة عن أغانٍ شعبيّة من المحافظات السورية، ترافق الأغاني حكاية الأغنية والزي الشعبي والدبكة الشعبيّة، إضافة إلى فيلم يوثِّق عدداً من الحرف التقليدية، ذات القيمة الجماليّة العالية، التي تروي حكاية المهارات والممارسات للصانع والحرفي السوري والتي تندرج اليوم في إطار التراث الثقافي المهدد بالاندثار والتي تعمل مديرية التراث على المحافظة عليها لأنها تحمل جزءاً من ملامح الهويّة السورية.. كذلك تعرض مديرية التراث الشعبي لوحات هي بوسترات مهرجانات التراث تلخص النشاطات التراثية التي أقامتها المديريّة بالتعاون مع مديريات الثقافة في محافظات القطر.
The post شكّل إرهاصاً لحركة المسرح appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.