لم تكن سنوات حياته طويلة، فقد توفي وهو في الثامنة والأربعين، لكنّها كانت حافلة وغنية بالحب والوجدان والنضال والأدب بكل أجناسه، يقول الدكتور علي القيم: من يعود إلى المجلدات التي طبعت في السبعينيات يرى أن هذا الأديب صدقي إسماعيل لم ينل حقه كبقية الأدباء، حين سألت عن وجود مدرسة باسمه أجابت زوجته بأنها رأت واحدة بالمصادفة موجودة في حي غير معروف، إنّنا نعاني مشكلة كبيرة وهي تغييب بعض الأدباء في الوقت الذي يجب تكريمهم وتذكير الأجيال بهم وبإبداعاتهم، صدقي إسماعيل فارس القلم النبيل، ففي كل مقالة وكل رواية له نكتشف عالماً من عوالمه الرائعة الحب والحرية والتشدد بالقيم الإنسانية النبيلة، من يقرأ صدقي يرى أنه يكتب عن أيامنا هذه وعن أزمتنا المريرة، هو كاتب مستقبلي، وأنا كنت أقول دائماً إنّ الكاتب هو من يستشرف آفاق المستقبل، لقد استخدم أسلوب السخرية لتغيير الواقع المرير الذي تعيشه الأمة العربية منذ عقود.
ربما كان هذا التغييب سبباً في احتفاء اتّحاد الكتّاب العرب، اليوم، بأديب ترأس الاتحاد عاماً واحداً فقط، يقول مالك صقور رئيس الاتحاد: يتزامن احتفالنا اليوم بالعيد الذهبي لتأسيس الاتحاد مع انتصارات جيشنا العربي السوري، وأردنا تكريم مؤسسي الاتحاد الأوائل وصدقي إسماعيل كان أكبرهم ومن ثمّ أحد رؤسائه ورئيس تحرير مجلة الموقف الأدبي، إنه إنساني النزعة وموسوعي المعرفة وألمعي الموهبة ومتوقد الفكر ويقظ الضمير، أحد أكبر رموز الأدب في سورية والوطن العربي، كتب بمختلف الأجناس الأدبية وتنطبق عليه المقولة الإغريقية فيما يخص الجنس الأدبي «الموضوع يختار جنسه»، فهو معلم ومرب وشاعر وقاص ومسرحي وروائي ومفكر باحث وصحفي، وكان في كل ماكتب وطنياً وقومياً وعروبياً أصيلاً، اكتوى بنار الاستعمار مرة حين سلخ لواء إسكندرون، ومرة في نكبة فلسطين ومن ثم نكسة حزيران.
ويضيء الأديب محمد حديفي على مراحل مسيرة المناضل والأديب صدقي إسماعيل، فيقول: القامة التي نحتفي بها اليوم ليست عادية، ولست أدري لماذا كلما التقيت واحداً ممن ولدوا في لواء اسكندرون ازداد يقيناً بأنّ أرض اللواء الطاهرة تمنح ساكنيه جينات النقاء والثبات والعروبة والوطنية، فأهم الكتاب لدينا من اللواء وصدقي منهم، في عام 1936 بدأ ينظّم مجلة يضمنها مقتطفات من أخبار العالم السياسية مع صور مقصوصة من الجرائد والمجلات وكانت الصفة العامة لهذه المجلة السخرية والمرح، وقد راح يطبع نسخها على الطين الرطب، أما النسخة الأصلية فكان يلصق عليه الصور، وتحوّلت هذه المطبعة العجيبة إلى طباعة منشورات توزع على سكان أنطاكية لتحريضهم على الثورة ضد المستعمر التركي الذي كثيراً ما اشتبكوا معه، وكان صدقي يهرع ويشارك في الاشتباكات وذات يوم ضرب سائق عربة تركياً مسلحاً فقام بإطلاق النار عليه وأصابه برصاصة كادت تصل إلى عموده الفقري وعلى إثرها نقل إلى المشفى وبعد خروجه متعافياً عاد إلى نضاله وتابع مساره الوطني حين جاء إلى دمشق وكان من أوائل الذين عملوا في حركة البعث العربي التي تحولت إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، فأسهم في تحرير جريدة البعث وكان من أعضاء المؤتمر التأسيسي للحزب في نيسان 1947.
يتابع حديفي: بدأ صدقي بكتابة المقالة منذ عام 1945 ومعظمها نشر في صحيفة البعث، وأول مؤلفاته «رامبو» قصة شاعر متشرد نشرتها دار الرواد في دمشق واستمر في العمل في جريدة البعث حتى 1959 ثم انتقل إلى الكتابة في جريدة الجماهير، وفي عام 1962 نشرت له دار الطليعة في بيروت دراسته الغنية «العرب وتجربة المأساة» وفي نهاية الستينيات كتب عدداً من النصوص المسرحية، لقد كان متعدداً وسياسياً بارزاً ومناضلاً بكل ماتعنيه الكلمة من معنى.
عمل صدقي إسماعيل معلماً في مدارس دمشق الابتدائية بعد التحاقه بدار المعلمين حتى عام 1948، عندما انتسب إلى كلية الآداب -قسم الفلسفة في جامعة دمشق وتخرج فيها عام 1952 بتفوق، كذلك حصل على دبلوم في التربية، وفي عام 1957 تزوج من السيدة عواطف الحفار التي تحدثت عنه بحب وشوق وإخلاص، تقول: كان زاهداً في أمور المال والترف وأقمنا حفل زفاف بسيطاً لا توجد فيه أي مظاهر للترف، وخلال 15 عاماً عشناها معاً كنا نمضي عطلة الصيف كل عام في بلد حين يتوافر المال لدينا، وإذا لم يتوافر كنا لانسافر إلى أبعد من اللاذقية، لقد كان دمثاً وصادقاً وعفوياً ولطيفاً وينثر المرح أينما كان، كان يستمتع بالحياة كما يستمتع بالموسيقا بشغف ويستثمر كل وقته ، كان لديه هم كبير هو التعبير في كتابته، توفي صدقي وترك مخطوطات كثيرة معدّة للنشر، اهتمت الأوساط الثقافية بها وتشكلت لجنة من اتحاد الكتاب ووزارتي الثقافة والتربية آنذاك، لكن جميع اللجان كانت تتوقف بسبب عدم وجود تمويل للطباعة، إلى أن علم القائد المؤسس حافظ الأسد بذلك وطلب من القيادة القومية طباعة جميع المخطوطات وفعلاً طبعت يومها، لكن للأسف لم يتم توزيعها بسبب اعتذار المكتبات عن ذلك، وأخيراً تمّ حفظها في مكتبة الأسد.
توفي صدقي إسماعيل بنوبة قلبية ظهر 26 أيلول 1972 أثناء مراجعته نص مسرحيته «أيام سلمون» في مديرية المسارح في دمشق والقلم بيده، ولايزال أصدقاؤه وكل من عرفه من قريب أو بعيد يتذكر لمحاته الساخرة حين كان يحرر جريدة اسمها «الكلب» التي أسسها عام 1952 واستمرت عقدين من الزمن وكانت توزّع باليد وهي شعر كلها وامتازت بالسخرية، ويكتب عنها صدقي فيقول:
نصدرها من عندنا تباعا
وحرمة الشعر بها تراعى
وكل مافيها على العمود
منضبط كمشية الجنود
وليس كالشعر بلا أوزان
كأنه تبعيرة القطعان
تصوير: يوسف بدوي
The post سنوات حياته قصيرة لكنها غنية بالحب والنضال والأدب بكل أجناسه appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.