من الكتب المهمة التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب في دمشق الكتب التي تعنى بتراثنا عامة والمسرحي خاصة, ومن بين تلك الكتب (مسرحيات المعَلِّم «داود قسطنطين الخوري») تحقيق وتصحيح ودراسة الباحث والكاتب المسرحي محمد بري العواني، الذي يجتهد في مجال دراسة إرث رواد المسرح العربي، وله فيه (أبو خليل القباني: ريادة التجاوز)، كتاب (عصفور الرمان) استعادة نقدية لسيرة المسرحي الرائد مراد السباعي مسرحياً وقصصياً، وفي كتاب (المغامرة المستمرة) درس المسرحي فرحان بلبل مخرجاً.
يشير المؤلف إلى أن المسرحي داود قسطنطين الخوري، ولد في حمص 1860م وتوفي في البرازيل 1939م التي هاجر إليها عام 1925م، عاش في بيئة متعلمة وثقافية في منزل آل الجندي الذي كان بيت علم وثقافة وهو المكان الذي التجأ إليه «أبو خليل القباني» عندما هرب من الظلاميين في دمشق، وكان القباني قد تعرّف إلى الخوري في دمشق فضمَّه إلى فرقته مُغنِّياً ومُنْشِداً ومُؤَلّفاً ومُلَحِّناً, فاكتسب خلال عمله مع القباني خبرة وثقافة، ولذلك يعد من مدرسة القباني في المسرح الغنائي العربي التي أسست في حمص، لا في دمشق، ولا في مصر، وعاشت حوالي عشرين سنة بعده, أي بعد أن فرّ القباني بنفسه وفنه إلى مصر، وكان من بين الذين عاشوا معه وعاش لهم سنة كاملة (عبد الهادي الوفائي، محمد بن خالد الشلبي، يوسف شاهين، ومنهم المعلم داود قسطنطين الخوري) الذي كتب المسرحيات ولحنّها ودرب طلاب المدرسة الغسانية الأرثوذكسية وقدّمها على مسرح هذه المدرسة الذي يعد من أقدم المسارح في حمص.
يقول المؤلف عن مسرحيات الخوري: إن أهمية مسرحيات داود قسطنطين الخوري تنبع من طبيعة ووظيفة الموضوعات والمضامين الوعظية والإرشادية التي طرحها منتصف القرن التاسع عشر، والتي تحضُّ على الوفاء وحفظ العهود والمواثيق، وتحارب كل أنواع الرذيلة الأخلاقية والدينية والاقتصادية والتعليمية كالشجع والطمع والغدر بالأهل والأصدقاء والاستعلاء على الضعفاء. ومن المؤكد أن هذا نابع – والكلام للمؤلف- من تأثره بشيخه القباني الذي كان أكثر تنويرية من غيره في عصره, حين طرح حق المرأة والرجل في الحب والعشق وحرية اختيار شريك الحياة الزوجية على قاعدة التساوي بين الجنسين, بل إن أهمية مسرحيات الخوري في نظر المؤلف والباحث محمد بري العواني تنبثق من اتجاه الخوري نحو الواقع ومعالجة مشكلاته وعلاقاته الاجتماعية المتخلِّفة والمختلفة. ولهذا كثر لدى الخوري الوعظُ والإرشاد الدينيان والإنسانيان المباشران. كما يرى المؤلف أن الأهمية الفائقة جداً للمعلم الخوري الشاعر هي أنه دافع عن سورية وعن العرب والعروبة واللغة العربية دفاع أبنائها الغيورين في شعره وأغانيه وأناشيده وألحانه التي كان يبتكرها لتلاميذه ويقدمها في الحفلات المدرسية والخيرية مع أنه من أصول يونانية، وهذا يعني أن انتماءه إلى العرب والعروبة كان انتماءً فكرياً وروحياً وعن قناعة مطلقة. ولذلك يقرأ القارئ في تراثه الشعري قصائد وأغنيات وأناشيد تمجد العرب واللغة العربية، ولاسيما تمجيده سورية العربية الطبيعية.
تحدث المؤلف عن مسرحيات الخوري التي نعرف منها خمس مسرحيات، ثلاث منها مقتبسات هي: جنفياف، اليتيمة الموسكوبية، الصدف المدهشة. التي اقتبس المؤلف الخوري أسماءها وحبكاتها وشخصياتها وأمكنتها وأزمنتها. رأى المؤلف أن الشخصيات المسرحية في تلك المسرحيات نمطيةً بسيطة ذات هدف واحد، بمعنى أنها لا تتطور فلا يصيبها التحوّل. أمّا المظهر الآخر لشخصيات الكاتب الخوري فيبدو في مسرحيتي «عمر بن الخطاب والعجوز» و«الابن الضال»، وهما من تأليفه. حيث تنهض اللغةُ بديلاً عن الشخصيات. ومعنى ذلك أن الأفكار هي الأصل, وأن التعبير عنها يتمُّ باللغة، معانيها ومضامينها، فتبدو الشخصيات باهتة لأنها مجرد أسماء أو صفات، ويظهر الصراع في مسرحيات الخوري -بحسب المؤلف- صراعاً بسيطاً معبّراً عن هدف الشخصية الوحيد الذي تسعى لتحقيقه, وهو صراع كثيراً ما ينوء بالعظات الأخلاقية والدينية، وتسيطر النغمة الميلودرامية على الدوام في تلك المسرحيات.
وقد لاحظ المؤلف خلال دراسته مسرحيات الخوري أن هذا المعلّم قد أجاد في تأليف الأشعار والأغاني والترانيم والتراتيل للنصوص المقتبسة, وأن المعلم داوود الخوري، بسبب نشأته في بيت علم وأدب، وفي رعاية أب مُتَفَقِّهٍ بالفقه الإسلامي، يمزج كثيراً بين لغة الكتاب المقدس، ولغة القرآن الكريم. لكن المقارنة التي أجراها المحاضر بين تنويرية الشيخ القباني وتنويرية تلميذه الخوري، أفادت بأن الأول كان أكثر جرأة وتمرداً على الواقع بينما اكتفى الخوري بمسايرة الواقع. ولداود قسطنطين الخوري ثلاث مسرحيات ضائعة هي: (جابرُ عثرات الكرِام، السّامريُّ الشّفيق، الْعَشْرُ العذارى). وللمعلم الخوري مسرحيتان كتبهما بالاشتراك مع رفيق دربه في التعليم يوسف شاهين، هما (يهوديت، سمير أميس) وقد كتب لهما الأناشيد ووضع لهما الألحان.
أما أهم ما يسجل لداود قسطنطين الخوري فهو التفاتُه المبكر إلى أغاني الأطفال في المسرح لأنه أدرك أهمية الدور التربوي للموسيقا والغناء في التوعية والتنشيط الجسدي والعقلي والروحي، ولاسيما حين تكون اللعبة جماعية، فيحسب له أنه أول مؤلف مسرحي عربي يكتب ويلحن أغاني مسرحية للأطفال كما في مسرحية اليتيمة الموسكوبية.
ويشير المؤلف إلى أنه برغم كل الملاحظات التي أوردناها تبقى مسرحيات الخوري حلقة مهمة في تاريخ المسرح الغنائي العربي والسوري، لأنها تابعت نهج القباني في (الأوبريت) الغنائية ونجحت فيه، كما حذت حذو القباني في استخدام اللغة العربية الفصيحة ممزوجة بالعامية, فإذا هي لغة مفهومة من قبل شرائح المجتمع كلها، إضافة إلى استخدام الشعر والنثر جنباً إلى جنب في الحوار المسرحي.
The post مسرحياته حلقة مهمة في تاريخ المسرح الغنائي appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.