تصلني كثير من القصص الموسومة على أنها قصص قصيرة جداً، تتسم بالحدث المركب ذهنياً، والمفتعل.. وأغلبها مسبقة الصنع، كتبت على سراط عملية حسابية.
وكنت قد عرّجت في زاوية سابقة على وقائع تعرّفي بمعلمي حنا مينه عبر قراءتي لرواياته، ثم لقائي به بعد روايات، في حفل عام!.. وقد ظلت بيني وبينه، تلك المسافة المهيبة بين التلميذ وأستاذه.. وقلت إني سرت على الخطا التي أرشدني إليها، ومنها استشهاده بنقاد كبار ممن رسخوا نهجاً سليماً للكتابة الروائية والقصصية، أو مقاربة شطآن الإبداع بشكل عام.. وهؤلاء كُثر لا يتسع المجال لذكرهم.. ومنهم الناقد الروسي الشهير (بيلينسكي) الذي يقول: «إن الحدث يأتي من الفكرة، كما النبتة من البذرة، والبذرة من التجربة، والتجربة من المعاناة»..
ويعلق، أو يعمق، أو يشرح حنا مينه فكرة بيلينسكي قائلاً: «هذا يعني أن يتخلى من يريدون كتابة الرواية عن سريرهم الوثير، ومقعدهم المريح، أن ينزلوا إلى دنيا الناس، إلى السوق، كما قال عمر فاخوري، أن يتخلوا عن أبراجهم العاجية، وأن يغامروا في البحر والبر.. أن يكافحوا لأن الحياة كفاح، بداية ونهاية، أن يعرفوا جيداً البيئات التي يلتقطون منها أحداث رواياتهم، أن يكونوا جريئين في تمزيق ما كتبوه ليلاً، إذا لم يرضهم عندما يتفحصونه نهاراً، أن يتركوا التجريد الفكري البحت، أقصد التجريد الذهني، الذي يودي بهم إلى تناول فكرة مجردة من صنع خيالهم ولا أساس لها في الواقع المعيش، ويعمدوا بعد ذلك إلى إلباسها ثوب الحدث، وإكساء شخصياتها الخرق البالية، فالقارئ ذكي، ويكتشف اللعبة الذهنية البحتة بأسرع مما يتصورون».
ويورد حنا مينه، في المقابلة قول ميخائيل شولوخوف، صاحب «الدون الهادئ» والحائز جائزة نوبل، في وقت متأخر من عمره «ليس بوسع الفنان أن يكون بارداً حينما يبدع! ولن يكتب عملاً حقيقياً، ولن يجد أبداً السبيل إلى قلب القارئ بدم سمكة، وبقلب خامل مترهل.. إنني إلى جانب أن يغلي الدم الساخن لدى الكاتب عندما يكتب، وأنا إلى جانب أن يشحب وجهه بالحقد الدفين على العدو حينما يكتب عنه، وأن يضحك الكاتب ويبكي سوياً مع البطل الذي يحبه، والعزيز على نفسه»..
وأظن أن التجريد لا يعدو كونه مسألة حسابية طفلية، يتقن صنعها أي تلميذ مدرسة ابتدائية.. أما رؤية الحياة بتلاوينها الصاخبة، فتحتاج إلى لوغاريتمات معقدة في تركيبة الكاتب، لكنها تنعكس حين الكتابة إلى أمواج بحر يداعب رمل الشواطئ بحنان!.
The post أمواج الرمل appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.