ثمة من ينظر لتركيا اليوم على أنها «يتيمة»، وسبب هذا «اليتم» بدأ منذ محاولات مصطفى كمال أتاتورك قطع علاقات تركيا بالشرق، حينما بدأ يُرسل موظفيه إلى الدوائر الرسمية لخلع «الطربوش» عن الرؤوس ووضع (البيريه) الفرنسية مكانها بالقوة.. ومع ذلك لم يصبح الأتراك أوروبيين، بل رفضتهم أوروبا بحزم رغم الترجي إلى حدِّ الذل.. وبسياسة النفاق التي تمارسها تركيا تبدو اليوم منبوذة من كل العالم حتى كأنها وباءٌ عليه، وهنا يُمكن الحديث ليس عن تركيا اليتيمة بل عن تركيا التي «بلا أصل».. وهنا نذكر إنّ ثمة معادلاً للرواية العربية الثلاثية الأجزاء «بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية» للروائي الراحل نجيب محفوظ، على الطرف التركي، وأقصد رواية أورهان باموق، «جودة بيك وأولاده»، وننوه هنا بأن باموق هو المعادل النوبلي التركي أيضاً للنوبلي العربي محفوظ.. في هذه الرواية يشتغل باموق على استعادة حالة الانعطاف التاريخية في تركيا من السلطنة إلى الجمهورية العلمانية.. وخلالها نتعرف إلى الشخصية الرئيسة التي أخذت الرواية اسمها، «شهبندر التجار» في اسطنبول، لنتعرف من خلال أجيال ثلاثة لأسرته على تاريخ تركيا، حيث يوغل باموق في سرد التفاصيل حتى الجيل الثالث من هذه الأسرة، أي الأحفاد التي هي الموازي لوطن بكامله، أخلاقياً، وسياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً وذلك برصد هذا التحول التراجوكوميدي من الخلافة إلى السلطنة، ومن ثم إلى الدولة التي زعمت العلمانية، وهذا التنازع بين القيم الشرقية التقليدية، والقيم الغربية، أو محاولة مقاربتها، وهذا التناهش الذي أوصل بالتركي اليوم إلى إنه لم يعد يعرف أن يضع الطربوش، ولا هو استطاع لبس «البرنيطة».!
في جودة بيك وأولاده، يقدم باموق صورة مفصلة وواسعة للحياة التركية على مدى أجيال ثلاثة مملوءة بالكوميديا حد التهكم، وتزدحم بالتراجيديا حد المأساة، حيث يدفع باموق بشخصياته للذهاب إلى مصائر حتمية بطريقة أقرب إلى الغرائزية، ليرسموا تلك الحياة المتنازعة والمتقلبة التي لا تستقر على حال، مرةً يعصف بها متشددون، وبين براغماتيين «يشدون اللحاف» تجاههم، غير أن الأهم، ولأجل استقرار «مزعوم» ومزيف، ومهما بدا هشاً، أن يبقى اللحاف متعادلاً، حتى لا يتمزق..!!
تُرى لو انتظر برهان باموق لإصدار هذه الرواية إلى ما بعد تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا، هل كان أضاف حرفاً واحداً عليها..؟؟!!
The post جودة بيك وأولاده appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.