قلّما وُجدت جماعة بشرية في معزل عن منح ذاتها الجمعية أفضليّة شاملة؛ حتى لو كانت بقية الجماعات تضعها في خانة الدونيّة القصوى. حدث هذا منذ عهد الجماعات البشرية الأولى بالتشكّل والتمايز المتبادل؛ ولم يستطع إمعاننا في التقدّم أن ينسف فكرة الأفضلية التي تدّعيها كلّ جماعة لنفسها. ولم يقف الأمر عند جعل الأفضلية المزعومة شعوراً جمعيّاً عارماً يمارس وظيفة اللاصق الخفيّ الذي يمنح الجماعة تماسكها, ويدعمه؛ بل تعدّى ذلك إلى رفض الآخر المختلف, بإطلاق دلالة الآخر، والعمل على تدنيته وتهميشه وإلغائه بشتى السبل التي تصل في المثالين النازيّ والصهيوني إلى محاولات حذفه من الوجود.
من المستبعد أن تكون الجماعات اليهودية القديمة هي الجماعة الأولى التي فضّلت نفسها بوصفها (شعب الله المختار) ولكن شيوع التفكير الديني في إطاريه المسيحي العريض الذي أقرّ ما جاء في (العهد القديم) والشعبي الإسلامي المتأثّر بما دُعي بـ (الإسرائيليات) الدخيلة, منح اليهود ما يشبه الأسبقية التاريخية في ترسيخ فكرتهم العنصرية عن أنفسهم، وجعل ذلك أعطية إلهيّة خالصة. ولا تقف المشكلة عند الجماعة اليهودية وحدها، بل تتعدّاها إلى سواها من الجماعات المتشكّلة على أسس دينية بخصوص النظر إلى أفضليّتها المرتكزة على هبة إلهية خاصّة بها وحدها. لم يترك العنصريون أية وسيلة لدعم أفضليتهم المدّعاة خارج نطاق الاستخدام؛ بما في ذلك البحوث العلمية التي بدأها (دارون) في نظرية التطور الذي أخضعه الأوروبيون لمبدأ التفاوت بعد أن وضعوا أنفسهم في ذروته العليا؛ ووضعوا بقية البشر في مصاف القرود؛ بالإضافة إلى ما حاوله العلماء النازيون في سياق قياس زوايا الجماجم الألمانية وما يقع في سياقها. وشطر عظيم من المشكلة اليوم قائم في الانسياق الجمعي العربي العريض وراء مختلف المزاعم العنصرية الذاهبة إلى وضع العرب في ذيل الدونية الحضارية والإنسانية الشاملة. وأفترض أنّ شطراً معتبراً من الغرب بشقيّه العنصري وغير العنصري قد تخلّى عن دعم مزاعمه العنصرية بالعلم؛ والأدهى أنّ الكثيرين من العرب هم الأسبق إلى تسويق هذه المزاعم على شاشاتهم الفضائية ومختلف فعاليّاتهم الاجتماعية والثقافية بما في ذلك بلوغهم حدّاً من الإسفاف الذاهب إلى جعل أفضلية (العرق التركي) على بقية البشر بمن فيهم العرب المسلمون, في الوقت الذي تذهب فيه الأدبيّات الإسلامية التأسيسية الأولى وأنّ الناس سواسية كأسنان المشط، وأنّ (قيمة كلّ امرئ ما يحسنه).
The post العنصرية وضيق الأفق appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.