اللحن السوري في مواجهة التشويه وسلب الهوية

أين خصوصية اللحن السوري اليوم فيما يقدم من مؤلفات موسيقية ومن أغنيات وكل ما يتصل بالذائقة السمعية؟ لماذا يبدو الهجين الفني وكأنه ابتلع الإبداع الحقيقي وضاعت ملامح الموسيقا المحلية في حضارة تؤكد مكتشفاتها أنها اخترعت السلم السباعي الموسيقي الأول في التاريخ، عدا عن أول الآلات الموسيقية الشهيرة وعلى رأسها القيثارة؟. ما الذي يحدث في اللحن السوري بالضبط، وهل المشكلة معرفية تتصل بالانقطاع عن التاريخ الفني الثري، أم هي تقنية إدارية ترتبط بالتربية وعمل المؤسسات التي من المفترض أن تكون مسؤولة عن هذا الشأن؟.
لطالما كانت الموسيقا الواجهة الحضارية للشعوب، واللغة العالمية التي لا تحتاج إلى مترجم، والتي تقدم الحاضر الحديث المنبثق من التراث والتاريخ والحضارة الأزلية لهذه الشعوب، إلا عندنا في سورية، تنكرنا لتراثنا بطريقة مؤلمة، وأهملنا كبار ملحنينا، ووأدنا اللحن السوري الأصيل، وأجلسنا على رفاته أشباه ملحنين ينعونه بأقبح الألحان.
«تشرين» طرحت تساؤلاً على بعض الملحنين المعاصرين عن ماهية اللحن السوري، وهل نملك اليوم ما يمكن تسميته اللحن السوري؟. وما السبل لإحيائه والمحافظة عليه وربما تطويره بما يتناسب مع العصر؟.
سمير كويفاتي: لابد من العودة للتـاريخ السوري
الموسيقار سمير كويفاتي تحدث بدايةً عن خصائص اللحن السوري: «توجد ألحان تعرف بسوريتها من خلال «الميلودي» والجملة الموسيقية الموجودة في اللحن، وقلائل هم من قدموا ألحاناً ذات طابع وشخصية سورية حقيقية، فمن يريد أن يصنع لحناً سورياً أصيلاً وصحيحاً مبنياً على تاريخ سورية، يجب أن يكون له في البدء اطلاع على اللحن السرياني، إذ لا يجوز أن يصنع أحدهم لحناً سورياً من العدم».
يرى كويفاتي أننا منذ ثلاثين سنة حتى اليوم لا نعثر إلا على القلائل جداً من الملحنين الذين تمكنوا من صناعة اللحن السوري، يقول: «أحد هؤلاء القلائل أستاذي نوري اسكندر، وهو من أصول سريانية، وله أكثر من بحث في اللحن السوري، وألّف مجموعة أعمال موسيقية، وأي مستمع مختص أو غير مختص حين يستمع لألحانه يعرف أنه يقدم لحناً سورياً حقيقياً، فما قام به اسكندر هو صناعة جملة وتوليفة عليها «هارموني» والهارموني التي صنعها على الموسيقا الشرقية ألبسها ثوب اللحن السوري الأصيل، ومواصفات لحنه هي أولاً أن يكون خالياً من أي «موتيف» أو «تيمة» غربية، بل هو لحن سوري بحت، وهو ما استهجنه الناس، وعدوه غريباً، خاصةً أن في سلالم الموسيقا الشرقية درجات لم يعتد الموسيقيون والمستمعون السوريون الوصول إليها ومن بينهم أنا، لكن المصادفة الحلوة قادتني للتعرف إلى نوري اسكندر، الذي صنع موسيقا سورية شرقية بامتياز، لدينا جملة شعبية يستطيع تقديمها وغناءها أي كان، ويرقص ويدبك عليها الناس وهم فرحون، لكن أحداً لا يستطيع فكفكتها وتحليلها مثلما يقوم الباحثون بهذا الشأن: أمثال نوري اسكندر، هناك خصائص للحن السوري، فالجملة أو اللحن السوري يجب أن يكون لهما أصول، وأصول اللحن السوري هي اللحن السرياني وإذا لم نرجع لجذورنا فإننا لا نستطيع الخوض في أي موضوع، فنحن لدينا جذور وأصول سريانية، نحن سريان بأرض سريانية سورية، ومشكلة اللحن السوري أن أشخاصاً خرجوا علينا بصفة ملحنين ونسفوا الجذور السورية السريانية وحولوها إلى ألحان تجارية بعيدة عن جذورنا ولا تشبهنا، هابطين بذلك بالذائقة الموسيقية السورية لدى الجمهور.. اللحن السوري –باختصار- موجود في الجذور، والمعاصر السوري الذي التزم بهذه الجذور هو الموسيقار نوري اسكندر، وهو اليوم خارج البلد».
أما الأغنية السورية فقد جاء من اشتغل عليها: أمثال عبد الفتاح سكر –رحمه الله- الذي نرى في جملته اللحنية –كأغنية سورية- طابعاً سورياً مميزاً لا نسمعه في أغاني اليوم، وما قدمه آنذاك لا يشبه الموسيقا التي نسمعها اليوم، اليوم أصبح الموسيقيون يستسهلون التلحين، بينما –مثلاً- نوري اسكندر صنع «كونشيرتو» للعود ليتباهى به في الخارج، وهو أمر لم يسبقه إليه أحد، وبه قدم لحناً سورياً حقيقياً ومتكاملاً.
ورداً على سؤالنا: أين اللحن السوري اليوم يجيب كويفاتي: «أصبح اللحن السوري اليوم مستهلكاً بشكل تجاري جداً، ولا أحد لديه الشغف ليصنع لحناً سورياً حقيقياً لأنه للأسف لن يستفيد شيئاً، اليوم حين نستمع لمؤلَف سوري كامل لآلة الكمان والتشيلو، لن يتحملها أحد، ولكن هذا لا يعطي أغاني اليوم الهوية السورية الحقيقية، أنا في رأيي أي إنسان لا يمتلك أصول الجملة أو اللحن السوري لا يستطيع أن يقول إنه قدم لحناً سورياً حقيقياً، فسورية ذات السبعة آلاف سنة حضارة، لا نقدم لها اليوم -للأسف- سوى التخلف والأغاني الهابطة».
ماذا نستطيع اليوم كقامات موسيقية أن نقدم للحن السوري؟ ماذا قدمت كسمير كويفاتي وماذا يمكن أن تقدم؟ يجيب:
«حاولت من خلال الأغاني التي لحنتها للسيدة ميادة بسيليس أن أبقي على ما تعلمته على يد نوري اسكندر، ورغم أني وحدي لا يمكن أن أنجز شيئاً، إلا أنني حاولت قدر الإمكان أن أبقي في ألحاني الطابع السرياني الأصيل وأنطلق منه، وحاولت أيضاً أن أركز على ترويج اللهجة السورية في الأغاني، لكن -لا أخفي عليكم- في مجال الموسيقا الصرف لم أنجز شيئاً يحقق هذه المعادلة السورية الجميلة، مقارنة بالجملة التي أنجزها نوري اسكندر لا أعتقد أني قادر على إنجاز عمل مشابه، ولكن كغناء، نستطيع أن نعيد إحياء الجذور الموسيقية السورية عبر تقديم أغان سورية صافية تقدم كلمة سورية خالصة تحافظ على الهوية السورية، على نسق «كذبك حلو» وهي أغنية سورية كلماتٍ وألحاناً وقد قدمتها مغنية سورية، بعيداً عن الغناء الشعبي الدارج».
هل نمتلك لحناً سورياً صرفاً وحقيقياً اليوم؟
يجيب كويفاتي: «لا يوجد لدينا لحن سوري حقيقي اليوم، كانت لدينا قامات موسيقية قدمت لحناً سورياً أصيلاً مثل نوري اسكندر الذي قدم منذ 15 عاماً في دار الأوبرا أمسية موسيقية قدم فيها موسيقا سورية صرف، عزف فيها نصوصاً لأدونيس وأنسي الحاج وقدم الشعر الصوفي، لكن الناس شعروا بأنهم يستمعون إلى شيء غريب لم تعتد عليه آذانهم، للأسف، نحن كسوريين، لسنا مخلصين لسوريتنا، وليس لدينا انتماء حقيقي لسورية، واللحن السوري مفقود عندنا وأصحابه ليسوا هنا، إما رحلوا وإما سافروا، وإذا أردنا أن نشتغل على اللحن السوري يجب أن نذهب إلى ما أنجزه هؤلاء»!.
كيف سننهض باللحن السوري؟ يقول كويفاتي:
كموسيقيين، رغم أن آلاتنا غربية، الكمبيوتر ياباني والسبيكرات أمريكية، لكن نستطيع بهذه الأدوات أن نصنع موسيقا سورية، لكن المشكلة أننا للأسف نحتفي اليوم بملحنين لا علاقة لهم باللحن، وربما لا يفقهون شيئاً في الموسيقا، لكنهم مجرد تجار، يحصدون الملايين من وراء أغانٍ سطحية غبية، بينما لا أحد يلتفت لملحنين عظام عاشوا ورحلوا فقراء، من دون حتى تكريم، أمثال عبد الفتاح سكر وسهيل عرفة وإبراهيم جودت وسمير حلمي وعدنان أبو الشامات وغيرهم ومن الأحياء نوري اسكندر لحنوا أغاني سورية حقيقية وأصيلة.
هل لدينا ملحن سوري اليوم؟.. يقول كويفاتي:
«لا ليس لدينا ملحن سوري معاصر لا أنا ولا غيري، وكل الشباب الذين يشتغلون اللحن السوري على جودة أعمالهم، هم لا يقدمون لحناً سورياً، وغير متعمقين باللحن السوري السرياني الحق، وما يستمع إليه الناس اليوم ليس لحناً سورياً بالمطلق.
طاهر مامللي: نحن لا نمتلك استراتيجيا ثقافية!
طاهر مامللي شاركنا تجربته أيضاً وسألناه إن كانت لدينا شخصية واضحة المعالم للحن السوري.. يجيب مامللي: كان لدينا في السابق، لأننا كنا نمتلك مجموعة من الملحنين على رأسهم –برأيي- عبد الفتاح سكر، أنجزوا هوية واضحة الملامح للحن السوري والموسيقا السورية، إذ كانت في الموسيقا التصويرية بصمة واضحة ومميزة للسوريين، وقد امتزجت إلى حد كبير الهوية السورية باللبنانية بسبب امتزاج الجغرافيا، تماماً كما شمال سورية، كان لها هوية مختلفة عن الجنوب والساحل والمنطقة الوسطى، وعلاقة الجغرافيا وثيقة بالموسيقا والغناء والفنون بشكل عام، وإذا أردنا أن نخصص حديثنا عن اللحن السوري، فبعد افتتاح المعهد العالي للموسيقا وما قدمه خريجوه، وأنا أفخر بأنني واحد منهم، في الدفعة الأولى كان هناك اجتهادات لمجموعة موسيقيين جاؤوا من مناطق مختلفة من سورية، وأخذوا الخريطة الموسيقية الغنائية بطريقة أكاديمية، وعملوا على تطوير اللحن السوري بطريقة احترافيّة، وأقول كان، لأن الحرب أخذت معها الكثير من الموسيقيين الذين كانوا يعملون بجد، وفي الوقت نفسه طغت الأغنية الهابطة التي ارتدت لبوساً فلكلورياً وهي براء منه، وروج لها إعلامياً ودعمت مادياً، حتى إنها أثرت في الفن اللبناني الأصيل، رغم أنهم يمتلكون أدوات ومؤسسات خاصة باللحن اللبناني، وصارت للأسف هي هوية الأغنية واللحن السوري، وهي هوية مزيفة وغير أصيلة، سرقت الهوية الفلكورية السورية، فالفلكلور هو هوية البلد، لكن للأسف ليس موثقاً، إذ ليست لدينا وثيقة سمعية في اليونيسكو، بينما كل بلدان العالم موثقة سمعياً فيها، وتالياً كان أحد مطالبنا توثيق القدود الحلبية، وربما الدلعونة لاحقاً، نعم كانت لدينا هوية سورية سمعية، فقدناها بعض الشيء، وعلى أمل أن يعمل الخريجون الأكاديمين الشباب بشكل واع على تثبيت الهوية السورية السمعية.
وفي سؤالنا عن إمكانية إحياء التراث السوري اللحني مع مراعاة الحداثة، يجيب مامللي: «أفضّل اليوم أن نوثق التراث السوري اللحني قبل التفكير في تطويره أو تحديثه».
وعما قدمه للحن السوري يقول مامللي: «محاولاتي خجولة في هذا المجال، لأنني أرى أن التراث أمر مقدس، لا أستطيع الاقتراب منه، ومخزونه أهم وأعمق من أي شيء، فنحن امتداد لتراثنا، لكن العودة له والعمل عليه فيها خطورة بسبب عولمة الموسيقا، خصوصاً أن الزمن الموسيقي عالمياً ذهب باتجاه الإيقاع السريع، بينما تراثنا والهوية السمعية السورية سابقاً كانت تعتمد على الوقت والزمن الطويل، حيث كانت مقدمة بعض الأغاني تأخذ نصف ساعة، أما اليوم فيغني المطرب وينهي حفلة غنائية كاملة في نصف ساعة، لذلك لم يعد مناسباً تحديث التراث، وأفضل أن يكون مخزوني الذي أنطلق منه وأقدم شيئاً مختلفاً وجديداً ومبنياً عليه من دون أن أشوهه، فالتراث يجب أن يُحفظ ويصان، وعليه تقام التجارب».
على عاتق مَنْ يقع حفظ التراث السوري وإحياؤه للوصول إلى لحن جميل ذي هوية سورية حقيقية؟. يجيب مامللي:
«نحن للأسف مشهورون بإلقاء اللوم على الآخر، في الحقيقة اللوم يقع علينا، إذ ليست لدينا استراتيجية ثقافية موحدة في كل ما يخص الحياة الثقافية السورية، ولا توجد رؤية موحدة للمنتج الثقافي، وهي ما يجب أن نبدأ بالعمل عليه.
جمال عواد: ضـاعـت الهويــــة الفنيـة الســورية
هل تعتقد أن هناك تراجعاً في حضور وهوية الموسيقا السورية عموماً والأغنية السورية خصوصاً؟. وما الحلول لذلك؟
بالتأكيد هناك تراجع وضياع في هوية الموسيقا السورية الحديثة عموماً، وتالياً تراجع في مستوى وحضور وهوية الأغنية السورية، ولهذا عدة أسباب، منها ما يتعلق بتعرضها كأي موسيقا محلية في العالم، إلى محاولات محو الهوية وتدميرها عن طريق العولمة، ولضعف الإمكانات المادية التي لا تساعد على إنتاج ضخم ومميز، كما أن وسائل الإعلام و طرق إدارة المؤسسات المسؤولة عن تشجيع الثقافة والفن تلعب الدور الأخطر في إحباط المشاريع الواعدة في هذا الشأن، وإظهار الغث من الفن والثقافة والفكر.
الحل هو في تبني أساليب إدارة وانتاج يقوم عليها أشخاص مؤهلون لهذه الغايات من حيث المستوى الفكري والوطني، والابتعاد عن الطرق الإدارية التقليدية في إدارة الشأن الثقافي والفني.

The post اللحن السوري في مواجهة التشويه وسلب الهوية appeared first on صحيفة تشرين.

Rea more
Posted from صحيفة تشرين
Thank you for reading the اللحن السوري في مواجهة التشويه وسلب الهوية on Syria News Kit If you want to spread this News please include links as Source, and if this News useful please bookmark this page in your web browser, by pressing Ctrl + D on your keyboard button, Or click the share button to place it on your profile.

Latest news:

Note: Only a member of this blog may post a comment.