آفاق.. إشكالية الفرح وثقافات الكآبة

ذكر أمبرتو إيكو في روايته العظيمة (اسم الوردة) وجود جماعات مسيحية إيطالية في محيط القرن الثالث عشر كانت تحرّم مختلف أشكال التعبير عن الفرح، بما في ذلك الضحك والابتسام، اعتماداً على أنّ الأخبار المدوّنة في الأناجيل لم تشر إطلاقاً إلى أنّ السيد المسيح قد ابتسم يوماً، ولأنّ الأناجيل لم تذكر شيئاً عن ابتسام المسيح، فقد استقبح بعض كهنوت تلك الأيام مسألة الابتسام وصولاً إلى حدّ التحريم. معروف أنّ أمبرتو إيكو من القلائل الذين أتقنوا ضفر الوثائق التاريخية في مدوّناتهم السردية، إن لم يكن أبرزهم. بمعنى أنّ ما سرده بشأن وجود هذه الجماعة المعادية للفرح والابتسام، بوصفه أدنى مظهر من مظاهر التعبير عن الفرح، هو وجود مرجّح، إن لم يكن وجوداً أكيداً. لأنه مدعوم بسياق ثقافي سابق منطلق من نصوص التوراة التي ترسم للمعبود صورة مريعة شديدة الكآبة، تجعل متعته القصوى مقتصرة على التلذّذ بروائح الدماء المراقة، عبر مختلف المجازر التي أنزلها (شعبه المختار) بالآخرين، وسياق لاحق ماثل إلى اليوم في النهج الذي تلتزمه جماعات الإسلام السياسي معبّراً عنها بمخازي هذه الجماعات وجرائمها على الأرض السورية. مع الانتباه إلى أن هذه الجماعات المفتقرة إلى ما يجعل الإنسان إنساناً تحظى من الإعلام العربي والعالمي، بما فيه قطاعات إعلامية سورية (تحظى)، بما ينزع عنها طبيعتها المتوحّشة كتسميتها باسم (الجماعات المتشدّدة) بكل ما في هذه التسمية من عناصر الإشادة الصريحة والمضمرة على حد سواء.
من محاسن السياق التاريخي أن تلك الجماعات المعادية للفرح إلى حدود التحريم لم تستطع أن تنمو نموّها الذي كانت تتوخاه لنفسها في الجغرافيا والتاريخ. فالفرح، وما يقع في إطاره من تدريج، وتنويع، وقف على الكائن البشري، ما يعني أنه حاجة بشرية موازية لبقية الحاجات الإنسانية كالطعام والهواء. والإنسان في مرحلة الطفولة يكون أشدّ ما يكون تطلّباً لهذه الحاجة، يحتاج إلى أن يفرح، وإلى أن يفرح به الآخرون. ويُعدّ اللعب لدى الأطفال من أبرز وسائل حصولهم على الفرح إلى درجة الزعم بأن نصيب الطفل من اللعب يشكّل القسط الأعظم من نصيبه المتحصّل من السعادة طوال عمره المنتهي بالموت.
من مشاكل التربية بشتّى أشكالها وطرائقها أنها في معظمها، أو في جانب منها عدوانٌ على فطرة الإنسان، وتقليص عنيف لمساحة الحرّية التي تتضمّن الفرح، وتتضمّن سواه. ولذلك سعى التطوّر الاجتماعي والثقافي، وتطوّر المؤسسات التربوية إلى تطعيم فجاجة التربية بشتى أشكال الفرح. وربما كانت طريقة الراهبة السويسرية (مونتيسوري) في تعليم الأطفال عن طريق اللعب تتويجاً لهذا التوجّه الراقي في التربية.
غير أن الأمر يتجاوز أشكال اللعب، بما في ذلك ألعاب الرياضة البدنية إلى طرائق مخاطبة الحواس، وفي مقدّمتها السمع والبصر. فالطفل بما يملكه من نظافة حسّية وذهنية يستمتع ويفرح بالأصوات الجميلة النظيفة، ويفرح أيضاً بإبصار الألوان الزاهية النظيفة. في ثمانينيات القرن الماضي، وربما في سبعينياته أيضاً, كانت رفوف المكتبات السورية تتحلّى بعدد وافر من مجلاّت الأطفال التي تروي قصصاً بوساطة الرسوم الملوّنة. وكانت المجلاّت ذات الأغلفة المعتنى بألوانها، وطباعة ألوانها هي الأكثر اجتذاباً لعيون الأطفال وأيديهم، في معزل عن معرفتهم بالقراءة والكتابة، كمجلّة (ميشا) التي كانت تصدر في الاتحاد السوفييتي، وتدخل السوق السورية بلغات ثلاث هي الروسية والفرنسية والإنكليزية. من المهمّ إلى أقصى درجات الأهمية في المخاطبة اللونية لعيون الأطفال، هذه العيون التي تُعدّ وسيلة فائقة الأهمّية لاغتراف الفرح، المهمّ مخاطبتها بألوان نقيّة نظيفة، خالية من الشوائب، والعكس صحيح، بالتوازي مع أهمية مخاطبة الآذان بأصوات نقية نظيفة.

The post آفاق.. إشكالية الفرح وثقافات الكآبة appeared first on صحيفة تشرين.

Rea more
Posted from صحيفة تشرين
Thank you for reading the آفاق.. إشكالية الفرح وثقافات الكآبة on Syria News Kit If you want to spread this News please include links as Source, and if this News useful please bookmark this page in your web browser, by pressing Ctrl + D on your keyboard button, Or click the share button to place it on your profile.

Latest news:

Note: Only a member of this blog may post a comment.