«جدائل الروح» لـ محمد الركوعي

ربما كان توصيفه لفنه غير منصف، ليس لأن التزامه بعوالم القضية الفلسطينية ينتقص أو يحد مما لديه، إطلاقاً، بل لأن ما تحكيه أعمال الفنان محمد الركوعي فيها من الرحابة ما يجعلها قادرة على الهروب من أي التزام، هذا الميل نحو فردانية متمردة بدأ مع العنوان الذي اختاره لمعرضه الأخير في صالة لؤي كيالي «جدائل الروح»، إنها مزيج من كل ما يثقل الروح ويحييها في الوقت نفسه، طمأنينة لا تتعارض مع كثرة الإيحاءات، وسطوة لكل ما هو شرقي، لعلها كانت مسوغاً لما ردده زوار المعرض عن التزام الفنان بفلسطينيته، وإن رأينا فيها ما هو أبعد، ففي معظم الأحيان يقف الفنانون الملتزمون عند رموز معينة غير قادرين على تجاوزها، في حين استطاع الركوعي الإضافة على ما بدأ به تجربته التشكيلية منذ أعوام، أحد تفاصيلها الأبرز اعتقاله مدة 13 عاماً في سجون المحتل الصهيوني، ولنا أن نتخيل كيف سيظهر ذلك فنياً، كانت البداية لوحات رسمها على وجوه المخدات، هرّبها إلى أهله بطرق مختلفة، إلى أن أصبحت 400 لوحة، أخرج الكثير منها إلى الضفة الغربية وغزة، هكذا يمكن لنا أن نفهم كيف سارت تجربة فنية بدأت من المعتقلات وكيف أمكن لصاحبها أن يترجمها ثم يكتب ما هو أكثر شمولية.
في معرضه يستعيد الركوعي نتفاً شرقية، يبني عليها، أجملها نساء طويلات القامة، يرتدين زياً تقليدياً، يلف أجسادهن حتى تختفي ملامحها، تماماً كما تروي الجدات عن الحواري القديمة، لباس تختلف ألوانه وأسماؤه وطريقة ارتدائه بين مدن الشرق، يعود في بعض اللوحات إلى غاياته التقليدية لكنه يذهب في لوحات ثانية إلى إشارات أكثر جدة، فانحناء الرأس الطفيف ونحول الأجساد المبالغ فيه وما يبدو أنه ريح خفيفة، يبعث إحساساً بشيء من ذل أو لاجدوى. وهو ما نراه بدرجة أقل في نماذج أخرى، يختلط فيها الجسد الملفوف ببيت على أطلال بلدة، تكثر حولهما التفاصيل كالشجرة والحمامة والهلال. لاحقاً سينتقل الجسد ليصبح جزءاً من نصف لوحة، مقابل نصف وجه، وفي الظلال مداخل وبوابات لبيوت يتعالى بناؤها شيئاً فشيئاً، كأنه أمل يكبر.
يستقي الركوعي من الأساطير الشرقية حتى يُهيأ للمتفرج أن لوحاته أقامت يوماً في سوق شعبي أو طارت على بساط الريح، وعاشت زمناً في شوارع القدس وبغداد، فأخذت منها انحناءات الأقواس وأشكال القبب، الأبنية المتلاصقة بساحاتها الواسعة، شيءٌ من بيوت دمشق وأشياء من بيوت جاراتها العربيات، لذا سنرى الزي التقليدي النسائي نقطة تلتقي عندها ثرثرات الشرق ومخاوفه الخبيئة، تماماً حين يرسم الركوعي الوجه والعنق مستغنياً عن الجسد بكامله، يظهر هنا غطاء الرأس بشكل مختلف، نصف دائرة، تستلقي على الكتفين والصدر، توحي بسكينة سرعان ما تمتد إلى الروح، كما لو كانت جديلة طويلة، يستحيل على صاحبتها قصها أو الاستغناء عنها بشعر قصير لا مبال!.
في كل ما سبق، سنجد فلسطين، لكنها ليست وحدها أبداً، محمد الركوعي يبحث عن مدن الشرق، تغريه الألوان والأحداث، تستوقفه العمارة والأزياء، هو لا يكتفي بماضيها فقط بل يجد لها مكاناً في القادم، مكاناً يوازي قدرة لوحة على المباهاة بكل ما هو شرقي.

Rea more
Posted from صحيفة تشرين
Thank you for reading the «جدائل الروح» لـ محمد الركوعي on Syria News Kit If you want to spread this News please include links as Source, and if this News useful please bookmark this page in your web browser, by pressing Ctrl + D on your keyboard button, Or click the share button to place it on your profile.

Latest news:

Note: Only a member of this blog may post a comment.