يُنتج اليأسُ الحماقة، أمّا الأمل فينتج الجنون.. ديوان الحماقة غير ديوان الجنون، فالأوّل شرود عن الحقيقة بينما الجنون بحث عن حقيقة أخرى، ولأنّنا لا نخوض في معاجم ومفهومات متجددة نخلط بين الحماقة والجنون.
الحماقة عدو العقل والجنون معاً، تشويش على النّظام واللانظام لأنّها تقع على هامش المعنى، بينما الجنون بحث عن المعنى الآخر وأداة من أدوات العقل لاستنزاف اللاّمعقول، وهذه العملية تتطلب مُنتهى الأمل، فاليائسون «يخرمون» آخر المعنى المتبقّي للوجود، ففي الأمل يوجد المعنى الجميل للتحرر والثورة والتطور، بينما اليأس إذعان للكآبة ولحظة انهيار عصبي للوجود.
كل نصّ لا يوجد فيه ملح الجنون سيكون نصّاً ميتاً، لا يساعد على ماضي المعنى ولا مستقبله، فالنصوص المجنونة هي التي تثير المعنى وتسهم في تطور معنى الوجود نفسه، بينما الحماقة تسهم في تقويض المعنى وهي تهديد سافر للمعرفة والوجود.
يأتي الإحباط من نصوص حمقاء لا عقل ولا جنون يشفع لها، تُنتهك فيها المعاني حدّ الملل وتنتحر المفهومات حدّ الغثيان، ولا نملك حينئذ أن نحاكمها بأصول المعقول ولا بالقواعد الخفية للجنون؟.. إنّها الحماقة أو الوقاحة كما عبر عنها – لسان الحماقة نفسها – إيرازموس، تلك التي نسخر منها ولكن نقترف منها الكثير، الجميع يعتاش منها ويبني من خلالها السعادة والمصلحة ولكن قلّما اعترف لها الناس بهذه الفضيلة أو بنى لها معبداً: «معبداً للحماقة»؟.. كما تساءل إيرازموس.
ولنتحدث عن مظاهر النّص الأحمق وما تجلياته وفي أيّ ملّة عدمية يمكن تصنيفه… سأفترض هجاء للحماقة بقدر ما أمكن فعله مديحاً للجنون، سأقول: أنا الحماقة على عكس ما تراءى لمادحيها.. أنا وقاحة تمشي على الأرض، الجميع يعرفني، أمحق الحقيقة وأجرف المعنى وأمحو كل لوحة جميلة بألوانها الزاهية.. سأجعلها لوحة سوداء، أسكن في كل رأس يهيم بالأنانية والتملق وهما وجهان لطبيعة واحدة.
تسألني عن النصوص الحمقاء فأجيبك بلا تردد: إنّني لا آتي بشيء من دون نص أصلي، لا أقف عنده قبل المُضيّ في «تقميشه» بل أسعى إلى التهامه بمزاج مصاصي الدماء وأتركه هيكلاً عظمياً.. إنّني أحرّف الأشياء وأخفي غبائي قدر المستطاع لكي أحظى بموقع بين العقلاء.. أنا الحماقة أكفر بالتاريخ بل هو عدوي لأنّه يميط عن وجهي هذا القناع التعاقلي، وهو- أي التاريخ- أخطر من كل شيء على الحماقة.. معي – أنا الحماقة – تتغير الأشياء وتهتف للضحالة، العقل، يا للسخرية، هو أسوأ ما أتقنّع به في دنيا الانحطاط ، أنتم تسمونه انحطاطاً فأما أنا فهو بالنسبة لي المدينة الفاضلة.
في كوننا السياسي تتجلّى الحماقة بعنفوان يومي، الحماقة هنا طريّة كعصير البرتقال، معتقة كخمرة القُرصان، وهي أيضاً سافلة كالحماقة نفسها. ومنذ حقب طويلة كانت السياسة حماقة، بل أسوأ أشكالها، سياسة لا تستقيم إلاّ في مجتمع الرعاع الذي فقد معنى العيش المشترك. هذا القطيع الذي ينبت كالسوء، كأشجار غامضة لا ندري كيف نبتت على أسوار المدينة، كخضراء الدّمن تحنّ إلى العصر التّراب. لا تكون إذاً سياسة إلاّ أن تكون حمقاء، فهي لا تصبر على فراق الحماقة.. حين نحاسب السياسة بالمعقول واللامعقول فنحن ما زلنا لم ندرك الحماقة باعتبارها شيئاً آخر، نخطئ دائماً حين نحاسب الحماقة بالقيم وقواعد التدبير فنعبّر حينئذ عن موقفنا بحماقة.
لنا في المجال العربي منسوب أعلى من الحماقة، نتساءل دائماً: ما نسبة المعقول داخل هذا الغمر من الحماقة؟.. السلم حماقة، الحرب حماقة، في الأطروحة ونقيضها تحتل الحماقة مركز البنية، بنية حمقاء تنتج وتعيد إنتاج نفسها… ثوراتنا هي الأخرى حمقاء. الحماقة هي المحدد الأسمى لمجال يعيش الحماقة بإمتاع كبير ومؤانسة بالغة، مع الحماقة يصعب أن تمشي الحقيقة في مأمن من الحماقة وهي كقاطع طريق لا تسمح بأن تواصل الحقيقة خطوها بسلام.. الحماقة أفرزت هي الأخرى معجمها الخاص وشعرها وفنها وسياستها وإنسانها: إنسان أحمق.
تبدو النصوص الحمقاء في هجاء الحماقة هي تلك التي تنتهك المعقول واللامعقول نفسه، فهي لا تسلك مسلك النقيض وإلا كانت مفارقة، والمفارقة لا تكون حماقة حتى تسقط كل أقنعتها وتتكرر بوقاحة، لكنها في تلوّنها المستمر هي خارج المعقول ونقيضه.. كل نص تتكرر فيه المفارقات حدّ الغباء هو نص أحمق، وكلّ نصّ لا يوحي إلاّ بالكآبة هو نص أحمق، وكل نصّ يطلع عليه النهار متأخراً بمفاهيم تقادمت هو نص أحمق، وكلّ نصّ يعكس مُعاناة مغشوشة وقلق ممسرح هو نص أحمق، وكل نصّ هو تصفية حساب وهروب من ماض جبان هو نص أحمق، وكل نصّ تُلبس فيه المفاهيم لباس البهلوان ويختفي الجهل بين طيات عباراته وكل نصّ جعل من الحشو ملاذاً، وكل نصّ تعبره من دون أن تلتقط معنى أصيلاً في جودته وابتكاريته، هو نصّ أحمق..
النصوص اليوم حمقاء وقحة تنتهك حرم المعنى وتهدم هيكل الحقيقة وتقضّ مضجع المعقول وتحرج اللامعقول، لأنّ اللامعقول يبحث عن أساليب أرقى مما هي عليه النّصوص الحمقاء، إنّ الحماقة اليوم باتت خطراً على اللاّمعقول نفسه.
*كاتب من المغرب
The post في هجاء الحماقة والنصّ الأحمق! appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.