فشلت «ورشة المنامة» في إطلاق مشروعها الاقتصادي، ليكون اللبنة الأولى في إعادة تشكيل المنطقة العربية حسبما يُتعارف على تسميته «صفقة القرن»… أسباب الفشل كثيرة، لكن تندرج تحت عنوانين رئيسيين؛ الجهل الأمريكي بالتركيبة السياسية والاجتماعية للمنطقة، إذ قامت بتهميش مصالح لاعبين مهمين في المنطقة كالأردن، ومصر، والسلطة الفلسطينية ودعمت دولاً خليجية لا تملك ثقلاً سياسياً أو اجتماعياً داخل فلسطين. أما العامل الثاني فهو تصدي قوى محور المقاومة للجزء العسكري من المشروع، وتحقيق مكاسب مهمة في مناطق شمال سورية، وتتويج هذا التصدي بإسقاط طائرة التجسس الأمريكية، وعجز الولايات المتحدة الأمريكية عن الرد بشكل يتناسب مع حجم التهديدات التي أطلقها صقور الإدارة الأمريكية، هذا التصدي شكّل قاعدة مهمة للرفض الشعبي العربي الذي شهدته بعض العواصم العربية.
فشل «ورشة البحرين» يطرح تساؤلاً مهماً… ماذا بعد؟ هل سيقنع أطراف المؤامرة من الغنيمة بالإياب؟ من يدرك مفردات الصراع في وعلى المنطقة العربية يدرك أن هذا الاحتمال غير وارد قطعاً، وأن الأطراف المختلفة ستبدأ بحياكة حلقة جديدة من المؤامرة ما إن تنتهي من تحليل ما حدث في المنامة.
البشائر الأولى كانت بسيل من الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي، تهاجم العرب والفلسطينيين وتدعو إلى تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، بل والتحالف معه ضد إيران. وفي الوقت نفسه تسربت معلومات عن جهد أمريكي لتشكيل تحالف أمني (مخابراتي) في المنطقة ضد محور المقاومة وبشكل خاص إيران.
الموقف الشعبي العربي في بعض الدول كان صادماً، كما هو الحال في مصر مثلاً. فغياب الجماهير المصرية عن الشارع كان لافتاً، فرغم أن جميع الهيئات الثقافية والسياسية والفنية أصدرت بيانات مضادة لـ«ورشة المنامة»، إلا أن غياب الفعل الجماهيري يبقى لافتاً.
المعركة القادمة كما تشير الأحداث ستجري على مستويين؛ مستوى مكشوف ومباشر وهو الإسراع في الخطوات التطبيعية.. ومستوى سري هو العمليات الأمنية الاستخبارية، ولعل بشائرها بدأت في تونس التي اتخذت جماهيرها موقفاً مميزاً من تورط وزير السياحة في استقدام فوج سياحي إسرائيلي، بجوازات سفر إسرائيلية، والسماح له بالتجول في تونس.
بالتأكيد تدرك الجهات الأمنية والاستخبارية كيفية وآليات التعامل مع الحرب السرية التي لم تتوقف يوماً، لكنها مرشحة للتصعيد، كما حدث في محاولة اغتيال وزير النازحين اللبناني في منطقة جبل لبنان، والعدوان الأخير على سورية. يبقى دور جماهير المقاومة في المعركة ضد التطبيع، وهي معركة حاسمة جداً، ستكون لها آثارها في المرحلة القادمة من الصراع. على الرغم من تورط الكثير من العواصم العربية في التطبيع مع الكيان الصهيوني، بغض النظر عن مواقفها المعلنة، إلا أن الموقف الشعبي ما زال الأكثر أهمية في هذا المجال، ليس فقط لفرض حصار اقتصادي على الكيان الصهيوني، ولكن، وهو الأهم، لاستعادة وعي الشارع العربي بطبيعة الصراع وأطرافه.
إن الحديث عن مناهضة التطبيع أمر سهل، أما تطبيقه فيزداد صعوبة يوماً بعد يوم. فإضافة إلى ممانعة الكثير من السلطات الرسمية ووضعها العراقيل في وجه نشاطات مناهضة التطبيع، فإن حركات مناهضة التطبيع تعاني ضعفاً لوجستياً شديداً، وقصراً في النفس، وتكتفي بمواجهات موسمية، وتسودها الخلافات، خاصة فيما يتعلق بالتعاون مع الجهات الأجنبية. نستطيع ملاحظة ذلك في حدثين وقعا مؤخراً في الأردن وتونس. ففي الأردن قام رئيس بلدية مدينة الكرك باستقبال وفد سياحي إسرائيلي، وقدم له درع البلدية، والتقط معه صوراً تذكارية، ما أثار عاصفة من الاحتجاج داخل المملكة عموماً، وداخل مدينة الكرك خصوصاً، والتي تفتخر بأنها مركزٌ لمحافظة خالية من البضائع الصهيونية. هذه الموجة انحسرت بسرعة، وما زال رئيس البلدية يمارس مهام عمله وكأن شيئاً لم يكن. المثال نفسه حدث مع وزير السياحة التونسي بعد استقباله الوفد السياحي الصهيوني، فموجة الغضب انحسرت وبقي وزير السياحة في موقعه.
المعضلة الثانية تكمن في الصراع الذي يصل حد التخوين بين قوى مناهضة التطبيع المحلية، ومثيلاتها العالمية وخاصة «حركة BDS» وهذه الحركة كما تعرّف نفسها؛ حركة فلسطينية ذات امتدادات عالمية، واختيارها اللغة الإنكليزية للتعريف بنفسها يدل على أنها تتوجه إلى جمهور غير عربي… استطاعت هذه الحركة تحقيق إنجازات مهمة في العديد من الدول الأوروبية وفي أمريكا الشمالية ما دفع بدول مثل كندا والولايات المتحدة وفرنسا إلى دراسة فرض تشريعات تساوي بين حركة المقاطعة والعداء للسامية، وهو ما يجعل ناشطيها عرضة للمحاكمة والسجن. مع تنامي حركة التطبيع داخل الوطن العربي نقلت«BDS» جزءاً من نشاطاتها إلى الوطن العربي، وهنا اصطدم خطابها الليبرالي؛ الذي يتعامل مع الكيان الصهيوني «كدولة ذات سيادة ويطالب بالمساواة للعرب في فلسطين المحتلة 1948، مع الإسرائيليين على قاعدة القوانين الإسرائيلية» هذا الخطاب بنظر قوى المقاومة (وهي محقة) يمثل تنازلاً عن معظم أرض فلسطين مقابل شروط معيشية أفضل.
لم يكن بإمكان «حركة BDS» اتخاذ مواقف أكثر جرأة، والمغامرة بالمكتسبات التي حققتها داخل أوروبا، ومنح خصومها مادة تساعدهم على استصدار القوانين التي تعرض ناشطي الحركة للخطر. في الوقت نفسه لم يكن بإمكان قوى المقاومة الجذرية تبني المواقف الليبرالية لـ «حركة BDS»، فكان الصدام.
لقد أضعف الصدام قدرات الـBDS داخل الوطن العربي، لكنه لم يزد من قوة الحركات المحلية التي ظلت متفرقة وموسمية في نشاطاتها. ما يُعيب الحركات المحلية أنها تمتلك تعريفات متباينة للتطبيع، ولا تمتلك آليات أو برامج محددة لتنفيذ خططها، إضافة إلى ضعف إمكاناتها المادية، التي تعتمد بشكل رئيس على تبرعات الأعضاء.
المطلوب اليوم عقد مؤتمر توحيدي لكل حركات مناهضة التطبيع العربية، وتأسيس حركة واحدة، لها فروع في الدول العربية، وأن يضع هذا المؤتمر «مانفيستو» لمناهضة التطبيع العربي، يكون مُلزماً لجميع الحراكات، وأن يتم التنسيق بين الحراكات من خلال المركز الموحد، بما يشمل تنسيق الجهود، وتبادل المعلومات، وإيجاد مصادر التمويل اللازمة.
هذه المعركة إن لم نخضها بنجاح وفعالية، فإننا سنجد أنفسنا بعد فترة وجيزة أمام ورشة أخرى، في «منامة» أخرى، لكننا لن نجد من يخرج إلى الشارع. أما المتكلون على محور المقاومة، على طريقة «اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون».. فنقول لهم إن محور المقاومة قام، ويقوم بما عليه. المطلوب من جمهور المقاومة ونخبه القيام بدورهم، والاكتفاء من التنديد والعويل والتهديد والوعيد.
*كاتب من الأردن
The post ما بعد «الصفقة»… مناهضة التطبيع appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.