يتفنن في وصف الحزن وتسخير التعبير الشعبي

يضنينا الرّحيل ويسد رمق الفرح في شراييننا، نصرخ ونبكي ونحكي ونفرغ القلب والعقل من مآثر من رحلوا، ولوهلة أولى نظن أننا تجاوزنا المرحلة الأكثر خطورة في مرحلة مابعد الفقد، زمن قصير ونعود وكأننا لم نحزن، فنحزن من جديد ونعيد كتابة آلامنا ونتفنن بها فنستعيد قاموس كلماتنا وتعابيرنا ومصطلحاتنا، ولاسيما إن كان الكاتب منّا شاعراً يدخل المشاعر من أبوابها الضيقة والواسعة ويبحر في قاموس اللغة ماأسعفته معرفته وخياله، كذلك فعل الشاعر أنور جندي في ديوانه الأخير «وهم -2019» الصادر عن دار بعل، حيث أفرد لفجيعته بأخته مرثيات البراءة والطفولة وشغب الأنثى وحسنها وبهائها وانطلاقها كانطلاق حزنه وحزن أسرته الذي لا يبخل في ذكره وفي تكريمه أيضاً، لكن تبقى مناجاته «يا أختاه» النداء الأكثر ألماً ووجعاً، يقول:
كفاك موتاً يا أخيا قد احتلّ الحزن منا المحيا
كفاك موتاً وانهضي من قبرك وسيري إليا
يبتدئ الجندي ديوانه بحزنه ويرتّبه دمعة دمعة، لكنه يسترسل به، وهذا ماقد ينفّر القارئ منه وهو المشبع بحزن سنوات الحرب إضافة إلى حزنه الشخصي ربّما، وقد يدفعه ذلك إلى إغلاق دفتي الباب أو تركهما مفتوحتين والدخول بهدوء على أمل أن يرى ذاته في مرايا الصفحات ويتجول في ميزات وسمات شخصيات من مجتمعه، ولاسيما المثقفة منها، يقول الجندي في «واقع الشاعر»:
حين تكون فقيراً تصاب بالبهتان قوافيك
وحين لا تقاوم يغسل المطر معانيك
أشعارك ليست من صنعك ولاصنيعك
أشعارك من صناع الأرق في لياليك
ولعلّ أكثر صناع الأرق هم من الوسط ذاته، لذلك نجده يرسل «إلى مثقف مغرور»:
وما من مدرك العلم إلا قليلا
فلا تتجاهل طالب العلم مواسيا
رد على السؤال فما سأل السائل
إلا حين كان من الجهل معافيا
يتنقل الجندي في شوارع المدن والأرياف، ويسخر من سلوكيات ومظاهر مجتمعية كثيرة، كسخريته من عمليات التجميل التي اكتسحت بلدنا ككل البلدان العربية، يقول في «غضب»:
في حاجبيك زيف واضح يثير الإقياء
وفي انتفاخ شفتيك مكر يدعو للازدراء
فلا تلوميني إن أدرت وجهي عنك
وإن كنت تستحقين شعراً فلا تليق بك
إلا قصائد الرثاء
ليكمل بذلك مابدأه في ديوانه «الحب اللئيم ـ 2017» الصادر عن دار غانم، إذ نجده مثقلاً بالهم المجتمعي والوطني والإنساني، يقول في «النذل»:
أيا نذلاً عرفناك ونخفي عنك
حقيقتك كي ننجو من سيفك الذي لا يستحي
لسانك حلو الكلام يُخرج من بطن الأرض الأفاعي
وسراب أنت وقت يجد الجد
فلا حدّ يوقفك ولا سدّ
ومن الشام إلى السلمية ودروب من الحب والشوق والخوف، يقول الجندي:
سلمية إن طعنت كأنّ
الفكرة نزفت
وصبغت القصائد بالسواد
وكأنّ الشعر قد
يموت حتى الأبد
وفي العشق يقول الصدق والجمال والإخلاص والحب، وينتقد الكره والحقد، ويقول الرحيل والكبرياء، ويتحدّى الغرور، وفي نصوص أخرى يتحول العاشق المسيطر إلى عاشق مهزوم، نختار من «الحب اللئيم»:
تظنني، إن شكوت لها همّاً
أنني أستعين بها
ولا تدري أنّ الشكوى
لا تصحّ إلا
لمن يملكون الأرواح
ومن «قلب رقيق» نرتشف:
ما أجملك وأنت تحاضرينني عن العشاق
وعن اهتمام العشاق بالعشيقات
وتقولين إنّ الحب كله اهتمام
وحين أطلب الاهتمام منك
تقولين: ألا يكفيك أني أحبك؟
مواضيع كثيرة خصّها الشاعر والروائي أنور الجندي باهتمام كبير، مسخراً لها كلمات وألفاظاً قلّما تستخدم في الشعر الفصيح، كالأفعال: فقنا، تكريني، وظرف المكان وراك، ومجيّراً التعابير الشعبية لخدمة النص كقوله: عصافير بطني تزقزق، وغيرها الكثير من الكلمات والتعابير التي سبقتها عناوين فرعية مختلفة ومتنوعة ومرتبطة ارتباطاً مباشراً بالنص، بل إنها تدلل عليه وتشرح جزءاً منه، نذكر على سبيل المثال: كرامة عامل ومسؤول، سيئة العادات، سورية ياوطني، مع تشابه بعضها في الديوانين، مثلاً نقرأ نصاً بعنوان: «أمل» في ديوان الحب اللئيم ونقرأ فيه أيضاً «حقد الأمل»، وفي المقابل نقرأ نصاً بعنوان: «على حد الأمل» في ديوانه الثاني «وهم».
صحيح هناك فرق بين الحقد والاقتراب من الأمل، والأمل ذاته لكنها جميعها معانٍ تنضوي تحت المعنى العام «الأمل» الذي بدوره يجتمع مع العنوان الآخر تحت عنوانين عريضين؛ أحدهما صنّفه شعراً فكان «وهم» لامفر منه والثاني نصوصاً نثريةً وكان «الحب اللئيم» الذي غلّفه بحب صافٍ وحقيقي وإنساني وأبدي جعله سابقاً للأوّل وربما أفضل منه، حيث اعتمد مصمم الغلاف خلدون صقر على صورة أصلية لوالدة الشاعر أنور فؤاد الجندي التي أهداها:
وتسألني
أتحبني مثل أمك ياقمر؟
أجيبها:
لا والله
إنّ حبّ أمي أكبر من كلّ حبّ البشر

The post يتفنن في وصف الحزن وتسخير التعبير الشعبي appeared first on صحيفة تشرين.

Rea more
Posted from صحيفة تشرين
Thank you for reading the يتفنن في وصف الحزن وتسخير التعبير الشعبي on Syria News Kit If you want to spread this News please include links as Source, and if this News useful please bookmark this page in your web browser, by pressing Ctrl + D on your keyboard button, Or click the share button to place it on your profile.

Latest news:

Note: Only a member of this blog may post a comment.