كانت جفونُه تلتصق ببعضها بعد أن صار العرَق يتصبّب من رأسه وفودَيْه، كأنّه لم ينتبه أن بزَّته قد تبلّلت هي الأخرى إلى حدّ ضرورة عَصْرها، لأنه راح يفتّش عن منديلٍ ورقيّ في جيوبه، يجفّف العينين والأهداب، التي، معها، شعر على ما يبدو، أنّ اللّهيب لم يعد محتملاً! وما لبث أن واساني مداعباً، وعيناه تبتسمان عن جَمْرٍ خَضِلٍ: -ليتنا نخزّنها مؤونة للشتاء!
انفتح الطّريق أمامي، من دون أن أفطن للنّافذة المفتوحة، في صَهْد الظهيرة، لأن الجملة التي قالها بقيت معلّقة في سمعي كأنها عنقود من حبيبات تأبى أن تفترق أو تتباعد، ولا أريد أن أفقدها بحجْب الهواء الذي حملها إليّ حين توقفتُ أمامه على الحاجز! ولم يكن حديثه عن أمنيةِ مؤونةِ الدفء، شعراً، لكنّه المجاز الذي أورق من تجربةٍ مريرةٍ وسابقة مع البرد! جملةٌ بسيطة لم يسبق أن قرأتها في قصيدة أو رواية، ولا سمعتها من أرفع متحدّثٍ تزيّن لغتُه البلاغة، كانت قادرة على استبقائي في المكان الذي غادرتُه للتوّ، حيث كان الإسفلت يغلي، وأشعّة الشّمس تسلّط سعيرَها بكل ما أوتيت من الجبروت واللامبالاة بالأحياء الذين يضربون في الأرض، وهو واقفٌ وكلُّ ما حوله، ومَن حوله، يتحرّك! كان هنا في شتاءٍ سالف! كان الصّقيع قد مرّ أيضاً مع المارّة، وهو بالملابس نفسها، وكما غاب الظلُّ والفيء عنه حيث تركتُه، غاب الدفء في تلك الأيام الصّقيعيّة وهو يحايله بالوقوف، معاكساً للرّيح، أو ينفخ في أصابعه! الأصابع نفسها التي رأيتُها قبل قليل تفتش عن منديل ورقي، يجفّف العرق عن الجفون ويوقف عبث الملح الأخرق في الحدقتين!. كان عليّ أن أستعيد التبريد، لكنني لم أفلح في تخفيف الإحساس بالحرّ، الذي تُزفُّ أخبارُه دائماً بأنّه منخفضٌ هنديّ، لأنّ الجملة التي سمعتها راحت توسّع الدّوائر في بحيرة الوعي الذي قلّما تتبّعتُه في الأصياف الحارّة وزعمتُ أنني أدخل مرغَمَةً في بيات صيفيّ، يتوقف فيه دماغي عن النّشاط! هذا الواقف الصّابر على الحاجز وفي الجبهات، المبتسم، المتّقد في زمن التدمير، الذي ظننت أنني ختمتُ به المعارف عن المروءة والشجاعة وتخطّي أزمنة الموات، وإعادة الوهج إلى كلّ عناصر الكون الخاملة، استطاع أن يدهشني مرّة أخرى ويجعلَ كلَّ المساحات التي نتحرّك فيها بيتاً مسوّراً آمناً، عامراً بالمؤن وليس مؤونة واحدة!.
The post مؤونة دفء appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.