لا أظن أن أحداً منصفاً إلا ويقدّر للمبدع إبداعه سواء أكان إبداعاً فكرياً أم أدبياً شعراً أم نثراً ولكن حينما ينسجم إبداع المبدع مع ذاته وتتناغم وتتطابق ملامح الشعر مع نفس صاحبه وتتكشف الشفافية والمصداقية القوية التي تربط بين الفن وصاحبه، فإن ذلك بلا شك يعلي من مكانة الإبداع والشعر في نفوس قرائه ومستمعيه، ومرد ذلك إلى أن المفردة العذبة الصادقة لا تخفى معالمها ولابد من أن تأخذ سبيلها إلى قلوب الناس وأفئدتهم.
والشاعر الراحل نزار قباني هو واحد من الشعراء العمالقة الذين كان شعرهم مرآة لنفوسهم وذواتهم ودواخلهم، فكان ما يقوله منسجماً كل الانسجام مع أفعاله وتصرفاته يحكم ذلك الثراء بالقيم الإنسانية النبيلة التي كانت تطوف بها نفسه وهو الذي قال: «لايهم أن يكتب الشاعر شعراً جميلاً بل المهم أن يكون هو جميلاً ولا يهم أن يطلق عليه اسم الشاعر الكبير بل المهم أن يكون هو نفسه كبيراً ولا يهم أن يكتب الشاعر على ورق أبيض إذا كانت نفسه سوداء».
والحق أنه لم يكن امتلاك نزار أدوات الشعر والشاعرية الثرة التي كان يتحلى بها هما وحدهما مؤهلاه ليحتل هذه المكانة الشعرية المرموقة في عالم الشعر وهذه المكانة الكبيرة في قلوب الناس وهذه الجماهير الواسعة جداً لو لم تكن شفافية شعره هي بعض من شفافية نفسه فإذا كان لشعره عبق وعبير ياسمين دمشق، فإن لنفسه بياض هذا الياسمين ونقاءه وحسبنا بعض مما قاله في هذا الخصوص: «إنني شخصياً أرفض التفريق بين القميص والجسد بين الأصل والصورة بين العصفور والأغنية أرفض أن تكون الوردة ذات رائحة كريهة وأن تكون الممرضة ذات وجه عدواني وأن يكون الشاعر بويهمياً ومقطع الثياب وقذراً وبذيء اللسان ومتحللاً من الأعراف والتقاليد، فالقصيدة في رأيه جزء لا يتجزأ من صانعها.. وهنا يطرح السؤال الآتي: ما السر بين شفافية نفسه وتالياً شفافية أشعاره؟ وفي الإجابة نقول: إن السر في رأيي إضافة إلى ذلك الانسجام الرائع الفريد بين ذات الشاعر وكلمته يكمن في مصادر وحيه وإلهامه الشعري، فقد كان شعر نزار -كما نثره -كله جميلاً رائعاً ولعل أجمله وأروعه وأرقه شفافية ذلك الذي يحكي عن دمشق والحب والمرأة وهذه الثلاثة باعتقادي تمثل مصادر وحيه الشعري..
لقد أحب نزار المرأة وكتب على لسانها أجمل الأشعار فلم يضاهه في ذلك شاعر قط من المعاصرين ولا من القدامى، ومرد ذلك إلى أنه استطاع أن يتلبس ذات المرأة ويلج إلى مكنونات نفسها لذلك نرى أشعاره على لسان المرأة لها وقعها الخاص ونغمتها المميزة وشفافيتها الأخاذة ومنها قصيدته الشهيرة الملحنة «ارجع إلي» وغيرها من القصائد الملحنة وغير الملحنة وكذلك هذه المقطوعة:
لأني أحبك أصبحت أجمل
وبعثرت شعري على كتفي
جميلاً كما تتخيل
فكيف تمل سنابل شعري
وتتركه للرياح وترحل؟!
قل لي ولو مرة ياحبيبي
إذا رحت ماذا بشعري سأفعل؟!
فهل يصدق من يقرأ هذه الكلمات ولم يعرف أنها لنزار هل يصدق أنها لشاعر؟ وهل يملك إلا أن يعجب ويندهش بشفافية هذه الشاعرية الوجدانية حتى الثمالة؟
ولأن المرأة مبعث إلهامه فقد كانت موجودة رمزاً في أغلب قصائده حتى التي تحكي عن فلسطين أليس هو من قال:
وخلفوا القدس فوق الوحل عارية
تبيح عزة نهديها لمن رغبا
هذا عن المرأة التي يريدها نزار أن تكون جميلة شكلاً ومضموناً، أما عن الحب الذي يقول فيه أحد الفلاسفة: «إن من عرف الحب بالتجربة والمعاناة يدرك معناه، أما من حرم من هذه النعمة بما فيها من مرارة وخيبة فلا تفيده الشروح مهما طالت ولا الكلمات مهما دقت علماً بطبيعة الحب لأن العلم به قائم على التجربة الشخصية والمعاناة الوجدانية المباشرة».
لقد خبر نزار الحب وعاش معاناته بكل أبعادها وكان للحبيبة عنده ملامحها الخاصة وشفافيتها المميزة التي تشبه شفافيته فلم يقع في غرام أي امرأة يقول في أحد تصريحاته: «.. دعوني أعترف لكم أنني بالرغم من سمعتي كشاعر حب فإنني نادراً ما وقعت في الحب. خمس مرات ربما في مدى ثلاثين عاماً قد يبدو الرقم متواضعاً ولكنه حقيقي وصادق ولا يعني هذا أن مطالبي من المرأة التي أريد أن تكون حبيبتي مبالغ فيها ومستحيلة التنفيذ لكنها مطالب شخصية جداً وصغيرة جداً أولها: أن تكون من أحبها تشبهني وثانياً: أن تكون أمي وثالثها: أن يكون فني جزءاً من عمرها كما هو جزء من عمري…».
إن نزار الذي وضح ملامح حبيبته لم يفته أن يحدد ملامح الحب الحقيقي وإن قصيدته «إلى تلميذة» تحمل تعريفاً دقيقاً وشاملاً للحب لم يرق إليه تعريف أحد من الشعراء ولا من الفلاسفة والأدباء، وبالتأكيد ليس ثراؤه اللغوي وامتلاكه مفاتيح القصيدة وعبقريته وشاعريته الفذة هي السبب الوحيد في شمولية تعريفه ودقته بل الحالات الوجدانية في الحب التي عاش نزار شفافيتها ونقاءها
وإذا كان الكلام عن الحب عند نزار قد طال عن الكلام بالنسبة للمرأة وتأخر بنا الحديث عن دمشق فلأن ما يجمع بين الثلاثة دمشق والمرأة ونزار هو الحب وحبه لمدينته يصل إلى حد التوحد وقد فاق حبه لأي امرأة وهذه أصالة وشفافية أهل لها نزار وتستحقها دمشق وكثيرة هي أشعاره عن دمشق وما أسحره حين يحكي عنها ويبين شغفه بها ومما قاله بهذا المعنى:
أنت النساء جميعاً ما من امرأة
أحببت بعدك إلا خلتها كذبا
لذلك لا غرابة أن تتميز أشعاره عن مدينته فهي تكتسب رونقها من رونق الشام ومن شفافية ياسمينها ووردها يستمد شفافية نفسه وشعره ومن أصالتها وحضارتها وعزتها يجود.
نعم إن نزار عريشة ياسمين دمشقية حمل شعره شذاها إلى الأصقاع ولنفسه ذات بياض ياسمينها ونقائه مع فارق وحيد أن للياسمين فصلاً للإزهار وإزهار نزار في كل الفصول حتى عندما كان يستريح من كتابة الشعر ويقدم نثراً فإن لنثره عبق ياسمين الشام وجماله وكل ذلك لعمري لا يكون لو لم تكن كلماته تتغذى من نقاء دمشق وعزتها وأصالتها وفخارها.
The post وحدة النقاء والشفافية في شعر نزار قباني appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.