سارداً همومنا وأوجاعنا..

يلف خصر القصيدة برشاقة فارس، ويُلبسها ثوباً عربياً أصيلاً، ثم يعيدنا مع سحر كلماته المعتقة بالشغف إلى أيام الشعر العربي القديم، يزينها بحلّي الحداثة العصرية، فيقدم قصيدة لا تشبه ما نقرؤه كل يوم، وإذا كان الشاعر يمتلك أدواته ويتحكم بمفرداته بسلاسة، فإن الشاعر محمد علي شمس الدين تجاوز مرحلة الشعر إلى التربع على عرش القصيدة، ونسجها بخفة وذكاء وجمال باهر.
له عدد كبير من الدواوين الشعرية نذكر منها: (قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا، غيم لأحلام الملك المخلوع، أناديك يا ملكي وحبيبي، الشوكة البنفسجية، طيور إلى الشمس المرّة، أما آن للرقص أن ينتهي، حلقات العزلة، اليأس من الوردة، غرباء في مكانهم، الغيوم التي في الضواحي، شيرازيات).. وغيرها من الدواوين، كما كتب كتابين للأطفال (غنوا.. غنوا، وقصة ملونة) إنه الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين الذي استضافته مكتبة الأسد ضمن فعاليات معرض الكتاب السنوي بدورته الحادية والثلاثين.
الشاعر اللبناني قدم عدداً من القصائد المتنوعة التي شملت نصوصاً إنسانية وفلسفية ومعرفية ووجدانية عاطفية وأيضاً تأريخية، ومن هذه النصوص قصائد تذهب باتجاه المقاومة، مهدياً قصائده إلى صديقه الشاعر جوزيف حرب، ومتمنياً لو كان معه يقاسمه هذه الأمسية الدمشقية:
«يا نسيم الريح خبر للرشا.. لم يزدني الوردُ إلا عطشا.. أعليت جموعي كيما تبصرها يا الله.. وقلت أعيد لك الأمطار.. فلتنشر غيمك حيث تشاء، فإن الغوث يعود إليك.. والحزنَ يعود إلي..»
يأتي تفرد قصائد شمس الدين من رفعه للمدرك الجمالي في أشعاره وإشعاعها ودفقها الروحي والوجداني، فهو يمتلك أدوات الشعر بسلاسة محترف ويذهبها بالبلاغة، ويتفنن في إثارة المشاعر وتفجير الأحاسيس، بأسلوب صافٍ غزير، ولعل أبرز ما يحرك هذه الجمالية في قصائده هو الوعي الجمالي في تشكيل الأنساق البليغة وإصابة المعاني العميقة بسلاسة وخفة، فالشاعر اللبناني يملك أقصى درجات الاستثارة والتأثير والحنكة الجمالية في الوقوف على النسق اللغوي المبتكر والمعنى العميق:
«سألت بابل عن نارٍ تؤرّقُها والأرض تنشرُ موتَاها وتُحييها.. فلم تُجبني.. فلما غابَ شاهِدُها.. أبصرتُ خيطَ دِمَاها في سَواقيها.. وجئتُ بابلَ محمولاً على فرسٍ.. والريح تدفع ريحاً في نواصيها.. فما رأيتُ على أبراجها قمراً ولا سمعت أنيناً في مبانيها»
يجتاز الشاعر الصور الشعرية الجمالية إلى ما هو أبعد من الحقيقة، فيسبح بنا في فضاءات المفردات ممتلكاً أدواته الجمالية باحترافية شيخ كار، من صور ودلالات تصب في مجرى واحد هو الوجع الإنساني بكل جوارحه، العاطفية والإنسانية والحياتية:
«للناسِ حجٌ ولي حجٌ إلى سَكني.. تُهدى الأضَاحي وأُهدي مُهجتي ودَمي.. يا عابرَ الجسدِ الصحراء خُذ بيدي.. وخفِف الوطء إن الوطء في ألمي.. تمشي وأمشي فهل يدري بنا زمنٌ.. ساعاته الرمل والأيام كالعدمِ».
يعتنق شمس الدين القضايا العربية منذ الأزل، ويمسك بشظايا الكلمات المحترقة كالجمر بين أصابعه، يذخر بها قصائده، ويطلقها في وجه الظلم والاحتلال والقهر، حاملاً جثث من عبروا عبر التاريخ، ومحنطاً آلامهم بصورٍ حسية عالية الصوت، واضحة الرؤى:
«صلّيت ببغداد صلاة الدم ونثرت بغزة أوجاعي.. وعبرت الجسرَ الفاصل ما بين الموتِ وأضلاعي.. دمعي أصلُ الطوفانِ وقرباني جسدي.. فأقطع إن شئتَ يدي.. ستموج الغابة بالأغصانِ.. ويعلو بالأشجارِ عويلٌ حتى يفقد سقفَ القبة.. من لم يعرف وجع الإنسان وغربَته في الأرض فلن يعرف ربه»
وفي قصيدته الثانية «وجه لقيس» عَبَرَ الشاعر بنا ممتطياً قصائده إلى حقبة ما قبل الحب عبر قصيدة حاكى بها بأسلوب الشاعر قيس العامري في مغازلته ليلاه، فأبهرنا بقدر تنامي هذه الحساسية الشعرية وسموها ومرانها إبداعياً في نصٍ جمالي رفيع المستوى، سامياً بالتجربة الشعرية إلى فضاء الجمال الإبداعي المؤثر، يقول الشاعر:
«سأدخل في الناي كي تذكريني.. وجسمي على قصب النهر يمضي إليكِ.. أنتِ أمي إذاً وأنا كنتُ ذاك الصبي الذي حملته المياه إلى قدميكِ .. عانقيني طويلاً إن ألفاً من السنوات مشت في دمائي ولم أنتبه.. كنت قيساً نحيلاً ودمعة خدي حديقة.. وما كنتِ ليلى ولكنني سأكتبُ أن الزمان سريرٌ وأنكِ أجملُ منها.. لأنكِ أمي»
كما ألقى الشاعر عدة قصائد أخرى نذكر منها «وجهٌ لجبران» وقصيدة بعنوان «القبلة» من ديوان «النازلون على الريح» و«حديقة مريم» وقصيدة «فتى الرمان» وهي قصة استشهاد الدكتور حكمت أمين الذي كان يطبب الفقراء مجاناً قبل أن تغتاله يد الاحتلال الإسرائيلي في غارة على «تلّة الرميلة» جنوب لبنان، وهو من قرية كفر رمان في الجنوب يقول فيها «يا فتى الرمان.. قد طال الرحيل.. فلماذا أيها السرّ الجنوبي الجميل.. بددتك الطلقات.. أبدعتكَ الطلقات..»
من ديوانه «شيرازيات» اختار لنا شمس الدين قصيدةً خمريّة بعنوان «رأسي يدور»، وهي قصيدة ابتكارية معرّبة تأثر فيها شمس الدين بأسلوب الشاعر حافظ الشيرازي الذي عَايَشَ أيام المغول وكتب قصائد حب وخمرة، فقدم شمس الدين قصائد شيرازية بنبعة عربية ومنها هذه القصيدة:
«رأسي يدور على ما رقَّ من جسدي.. حتى كأن به مسَّ الأساطيرِ.. أو أنني كرة في كف حاملها ألقى بها الله في أرضِ المقاديرِ.. لا تشربِ الراح من دنٍّ بلا شغفٍ ولا تسلم عليه غيرَ مَخمورِ.. فالله أودعَ في ما كان من خبرِ.. سر الخليقةِ في كأس من النورِ»
وفي ختام الأمسية كرّم مدير عام مكتبة الأسد- إياد مرشد، ورئيس اتحاد الكتاب العرب- مالك صقور؛ الشاعر محمد علي شمس الدين وقدما له شهادة تكريم، وعن هذه الأمسية يقول مرشد: «الشاعر محمد علي شمس الدين من الشعراء العرب المعروفين بدورهم الكبير في المشهد الشعري العربي، وأعتقد أنه من أهم الشعراء، له صوته الراقي وحضوره المؤثر وجمهوره الواسع المنتشر في كل الدول العربية، وما قدمه من قصائد شعرية في هذه الأمسية حملت طابعاً إنسانياً جميلاً أعادتنا إلى تلك الروحانيات العذبة، التي كانت قد أبعدتنا عنها الحداثة الشعرية، فكانت أمسية جميلة هزت وجداننا بعمق» مؤكداً أن المعرض هذا العام كان عودة حقيقية لأن يكون من المعارض الأولى على مستوى الوطن العربي وبتمّيز: «من هنا كانت ضرورة التواصل مع شخصيات ثقافية عربية لها حضورها القوي في المشهد الثقافي العربي، ومشكورة هذه الشخصيات أنها لبت عطش الجمهور السوري المحب للثقافة، وأيضاَ دمشق تتطلع للقاء هذه الشخصيات لما لها من دور وإسهامات مهمة في الحياة الثقافية العربية في الشعر والفكر وفي مجالات الثقافة المختلفة».

The post سارداً همومنا وأوجاعنا.. appeared first on صحيفة تشرين.

Rea more
Posted from صحيفة تشرين
Thank you for reading the سارداً همومنا وأوجاعنا.. on Syria News Kit If you want to spread this News please include links as Source, and if this News useful please bookmark this page in your web browser, by pressing Ctrl + D on your keyboard button, Or click the share button to place it on your profile.

Latest news:

  • المجلس الأعلى للتعليم التقاني يعيد فتح مواعيد تقديم طلبات تغيير القيد
  • ارتفاع سعر غرام الذهب 13 ألف ليرة في السوق المحلية‏
  • “نفحات جنوبية”… معرض تشكيلي بالسويداء ضمن احتفالية أيام الثقافة السورية
  • ضبط 130 كيساً من الدقيق والنخالة بقصد الإتجار بالدقيق التمويني في حلب
  • الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام: وقوع عدد من الإصابات جراء قصف العدو الإسرائيلي موقعاً للجيش اللبناني في العامرية جنوب صور
  • مساعدات إنسانية روسية لأهالي قرية سنديانة بريف اللاذقية
  • كيم: ضرورة تطوير الأسلحة والمعدات وفقاً لما تتطلبه البيئة الأمنية للبلاد
  • لاعب التايكوندو حمزة سلامة: مستوى مهاري لافت ونتائج متميزة محلياً وعالمياً
  • مرسومان بتحديد الـ 21 من كانون الأول القادم موعداً لإجراء انتخابات تشريعية لمقعدين شاغرين في دائرة دمشق وآخر في دائرة مناطق حلب
  • عراقجي: المقاومة في الميدان تتصدى للاعتداءات الإسرائيلية وهي التي تقرر مصير المنطقة
  • Related news :

    Note: Only a member of this blog may post a comment.