ما كنتُ بحاجة لقراءة معنى «سلْسَلَ الماءَ»: صبَّهُ شيئاً فشيئاً في حدورٍ واتّصال، لأعرف الحالةَ التي أعيشها منذ أربعة شهور، كتسلسلِ الماء المصبوبِ على هَوْنٍ، يتحدّرُ بطيئاً من دون أن ينقطع!.
بدايةَ شهر أيّار بدأ الجيش العربيّ السّوريّ بتحرير ريف حماة وإدلب، وفي دفق الصّور التي خطفت قلبي على «الفيس بوك» رأيتُ وجه جنديٍّ وسيم، يبتسم أمام خيمة يلوّح خلفَه الرّفاق، وقد أنشد فيه أبوه، صاحبُ الصّفحة، قصيدةً شجيّة تحرّك الحجرَ الأصمّ! الجندي فُقِدَ في بداية المعركة، وفي كلّ صباح وضحى وظهيرة وعصر وأصيلٍ ومساء كان الأب يخاطب ابنه، مفقوداً أو أسيراً أو شهيداً! وفي كلّ الحالات كان الخطاب يفيض بالشّجن والشّعر والبيان الرّفيع، وصرتُ أسيرةَ تتبُّعِ الأثر في كلّ وقت، كأنّ ذلك الجندي كان تحت سقف بيتي منذ شبّ عن الطّوق، ورأيتُه يلعب مع أترابه وحين يخشوشن اللّعب يتنحى جانباً، من دون أن يشتبكَ في ضربٍ ونزاعٍ وعنفٍ بدنيٍّ يسيل دماً، وحين يسمع نداءَ أبيه يمتثل له ويقف بين يديه ليلبّي رغبتَه بكأس ماء أو منفضة سجائر، وحين تغيب الشّمس يكون قد وضع رأسه على الوسادة وقد أغلق حقيبته المدرسيّة ليجدها جاهزة في الصّباح، حتى لا يزعج أمّه بغير طعام الفَطور المتواضع! وسريعاً تجاوز السّنين، لتتوهّج النجوم على كتفيه والبزّة الأنيقة مفصّلة على مقاسه المشيق والملامح قد استقرّت كوجه النّبيّ يوسف!
لم يُفدْني المرور السّريع على منشورات الأب المكلوم، لأنّ قلبي هو الآخر صار ينجرح من معاناته، ويؤجّل النظر إلى صلواته الحارّة التي صارت لكلّ الجنود والمفقودين والشّهداء، واتّسعت لتغدو لكلّ الوطن بحاضره وبماضيه، ولم أفاجأ بأن جدَّ هذا الجندي ارتقى شهيداً من أجل سورية، حتّى استيقظتُ ذات صباح فإذ بصورة جديدة على رأس الصفحة لوليدٍ ناضرٍ، يشبه برعمَ الياسمين الغافي على شرنقة حرير، وقد تحوّل الأبُ إلى جَدٍّ يروي لحفيده حكاية أبيه المفقود منذ أربعة شهور ونصف الشّهر، ويحسد الجدّة التي تجلس بجوار مهده في دمشق وهي تلمس أصابعه وتسوّي قبّعة رأسه، بينما هو في القرية بجوار حاكورة الحبق، الحاضر دائماً في أصباحه، ومع فناجين قهوته، ينتظر عودةً صارت لاثنين وليس لواحدٍ قرّح غيابُه القلب…
مثلَ هذا الأب صرتُ أنتظر، وأتفقّد المنشورات، كأنّها صندوق بريدي الأثير، الذي سأفتحه لأجد البشارة: عاد الغائب وزهر الرّيحان!.
The post تَسلسُل appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.