ليس خَيالاً

كلُّ المؤرخّين المختصّين يفقدون اهتمام القارئ حين يقع بين يديه كتاب «حوادث دمشق اليوميّة» لشهاب الدين أحمد بن بُدير! وما كان ذلك المؤلِّف إلا حلاقاً من أبناء «القبيبات» في حيّ الميدان الدمشقي، يعمل في دكّان صغير قرب قصر أسعد باشا، وفي ذلك الدكّان سُرِدَت حكايات النّاس على ألسنة الزّبائن وذهب شهاب الدين إلى تدوينها في أوقات فراغه عبر واحدٍ وعشرين عاماً، امتدّت بين 1741و 1762! ولعلّ ذلك الرجل الذي كتب بلغة أقرب إلى العامّيّة، لم يتوقّع أن يغدو كتابُه أهمَّ وثيقة مدوّنة لتاريخ أقدم عاصمة في الكون، خلال القرن الثّامن عشر، وقتَ هيمنة الاحتلال العثماني الذي تعيّش على الجباية والضرائب والتّجهيل والتهميش، كما لم يتوقّع السِّحرَ الذي سيأخذ بلبِّ القارئ، وهو يطّلع بعد مئات من السنين على صور لا قصّ فيها ولا حذف ولا توليف، ولا رقابة غبيّة أو جائرة!
بالمصادفة، وصلتني نشيرة صغيرة تحمل عنواناً أنيقاً للغاية، لأنه مكتوبٌ بحروف ملوّنة بألوان العلَم السّوري: «وثيقة وطن» وكلمة وثيقة مكتوبة بالأسود ووطن بالأحمر، أما التنقيط فبالأخضر وفي تفاصيل النُّشيرة إعلان عن مسابقة لسرد حكاية واقعيّة شهد صاحبُها أحداثَها بنفسه، تحمل قيماً إنسانيّة أو معاني وعبرة، كي يشارك الآخرين بها من خلال قراءتها أو سماعها مسجَّلة بالصّوت! أقول إنني وقعتُ عليها بالمصادفة، لكثرة ما تتبّعنا أحداث هذه الحرب الملعونة في كتبِ مختصّي الاعتماد على الوثائق والتّواريخ، تأليفاً وترجمة، قبل أن أعرف من أتى إلى الطّفْح الغزير المنسيّ، ليأخذ الحقائق الحارّة من فمِ من عاشها، ألماً واختطافاً وتهجيراً وتدمير أحلام وتمزيق عائلات ورعبَ قذائف وانزياحاً في السّكن وفقدان أطراف وبيوت وسقوف وأحبّة! معنيّة مؤسّسة «وثيقة وطن» بالتأريخ الشّفويّ، لذلك ذهبَت إلى النّاس الأحياء ليحكوا ويَرْووا بأنفسهم بعد أن حكى وروى عنهم المحلّلون السّياسيّون ومؤلّفو الكتب والإعلاميّون والمراسلون وبعضُ من تنطّعوا للحديث باسمهم من «الطّرف الآخر», وخيراً فعلَت هذه المؤسسة التي فتحت قلبها لكلّ الرّواة من كلّ الأعمار والمستويات التعليمية والاجتماعية، لا يضيع منها صوتٌ واحدٌ في الضّجيج والاستعجال والتّجاهل، لأنّ هناك من يطالع هذه الحكايات بأناةٍ واهتمام ليقوم بتحليلها وتوظيفها في توثيق هذه السنين من تاريخنا، التي لم يُعرف لها مثيل ولا شبيه! البُديري الحلاق ماثلٌ في حكايات النّاس المعاصرين، بساطةً وقوّةَ تعبير وسحراً…

The post ليس خَيالاً appeared first on صحيفة تشرين.

Rea more
Posted from صحيفة تشرين
Thank you for reading the ليس خَيالاً on Syria News Kit If you want to spread this News please include links as Source, and if this News useful please bookmark this page in your web browser, by pressing Ctrl + D on your keyboard button, Or click the share button to place it on your profile.

Latest news:

Note: Only a member of this blog may post a comment.