الدفاعُ عن المصالح على الطريقة الأمريكية.. حروبٌ واغتيالات

عن الباطل في «حق الدفاع عن النفس» سنتحدث.
تاريخ كامل من الباطل الأميركي تلطى وراء حق الدفاع عن النفس كقانون أممي/دولي عام، لمنع الاعتداء والعدوان، وليكفل للدول أن ترد الاعتداء والعدوان دفاعاً ومقاومة، لكن هذا القانون كغيره من القوانين (التي تشكل ميثاق الأمم المتحدة ما بعد الحرب العالمية الثانية) تحول إلى غطاء لتسويغ استمرار الحروب وسياسات الاعتداء والعدوان والاغتيالات وحتى ارتكاب المجازر.
باطل لم تنفرد به الولايات المتحدة فقط، وإن كانت تتزعمه، الغرب الاستعماري (قديمه وجديده) شاركها، والعدو الإسرائيلي احتمى به وتغطى، والبعض اقتطع لنفسه جزءاً ليمارسه وليُحاجج بأن «لا أحد يستطيع ملاحقته أو محاسبته» مادام يعمل تحت سقف الباطل الأميركي..ولكن كيف حدث وانقلب هذا الحق باطلاً على يد الولايات المتحدة ليغدو الداعم الأول والرئيس لكل حروبها واعتداءاتها وعمليات الاغتيال المنظمة التي ترتكبها بحق دول وشعوب كثيرة؟
لنعد التذكير هنا أن كل التعريفات التي تستند إليها القوانين الدولية هي تعريفات مطاطة حمّالة أوجه، أكثر من ذلك يقول القانونيون الدوليون إن نظام الأمن المتضمَّن في ميثاق الأمم المتحدة (الذي من ضمنه قانون حق الدفاع عن النفس) لم يكن مُجدياً نظرياً ولا عملياً، في تحريم الاعتداء والعدوان، بمعنى الالتجاء إلى القوة المسلحة/ الغاشمة من دول ضد دول أخرى.. كما لم يكن مُجدياً في وضع قواعد وضوابط تُلزم الدول بإنفاذ القانون الدولي والالتزام بنصوصه.. هذا ليس هجوماً أو تهجماً على الأمم المتحدة التي يُفترض أنها أسست لسلام البشرية، بل هو توصيف لميثاق ولقوانين تُنتهك من الدول التي وضعتها، وبما يكشف الخديعة التي انطلت على الشعوب (وعلى الدول أيضاً) حيال وجود مرجعية دولية مُلزمة للجميع.
خلال العقدين الماضيين تحديداً بدا واضحاً للجميع أن هذا الميثاق وهذه القوانين تم تفريغها من معناها ومضمونها من خلال تضمينها عشرات الثغرات التي تنفذ من خلالها الدول المعتدية وعلى رأسها الولايات المتحدة للتدخل في شؤون الدول وترهيبها وتدميرها.. وسبيلها إلى ذلك للأسف «حق الدفاع عن النفس».
هنا يتصدر سؤال: ألم يكن الأجدى بالأمم المتحدة أن تضع قوانين حاسمة محددة تحرّم الحرب والعدوان بدلاً من قوانين «فرض كفاية».. قوانين تعمل على النتائج وليس على الأسباب؟
من يقرأ ميثاق الأمم المتحدة لا يجد فيه عبارة واحدة صريحة تحرّم الحرب، بل سيلاحظ أن الميثاق يتحدث عن الحروب بصورة عامة، ولا يفرق بين حروب الاعتداء وحروب الدفاع عن النفس، وهذا أمر منطقي- كما يقول القانونيون الدوليون- ما دامت الولايات المتحدة كانت الطرف الأساس في كتابة هذا الميثاق باعتبارها «أكبر المنتصرين» في الحرب العالمية الثانية.. إضافة إلى أنه لا يمكن في أي حال أن ينطبق المعيار السياسي على المعيار القانوني في استخدام القوة/ الاعتداء في العلاقات الدولية، فحق الدفاع عن النفس بات في حقيقته حقاً للدفاع عن المصالح وليس له علاقه بالإنسانية وبسلام البشرية.. هذا ما باتت الولايات المتحدة تجاهر به وفق شعار ترامب «أميركا أولاً» وبعيداً عن كل القوانين والمواثيق التي تقيد قدرتها على الاعتداء والعدوان.
وهكذا، كما سبق أن ماعت التعريفات الدولية للإرهاب وسقطت تحت وطأة التعريف الأميركي الانتقائي له، ماع «حق الدفاع عن النفس» وسقط تحت وطأة «أميركا أولاً».. لكن يُسجل هنا أن «حق الدفاع عن النفس» هو أكثر حق تم استغلاله في الحروب والاعتداءات حتى بات «مضحكاً مبكياً» ولا يبدو أن هذا الاستغلال سيتوقف مادامت المخططات الأميركية طافحة بالحروب والاغتيالات.. ولنا في المنطقة النصيب الأكبر منها.

الكثير من الأسئلة تبرز أمامنا في كل مرة تتحدث فيها الولايات المتحدة عن أنها مارست «حقها في الدفاع عن النفس»، لتعتدي على دولة أو لتغتال مسؤولاً.. لماذا يبدو هذا الحق حصرياً للولايات المتحدة، ولماذا تبدو الولايات المتحدة- وليس الأمم المتحدة – هي من يقرر من يحق له استخدام هذا الحق ومن لا يحق له ذلك، لماذا يجوز لها أن تستخدم هذا الحق في كل بقاع الأرض وضد كل الدول والشعوب، ولا يحق لأحد أن يمارسه في مواجهتها، أو في مواجهة من تدعمه، لماذا هذا الحق محرّم على الدول التي تقع ضمن بنك المصالح الأميركية، ولماذا لا يحق لأحد الرد بالمثل بينما العدوان الذي تمارسه الولايات المتحدة واضح بيّنٌ وموصوف بالزمان والمكان والأدوات والأهداف؟
من عليه أن يجيب عن هذه الأسئلة – أي الأمم المتحدة – يقف جانباً.
لنذكر هنا بموقف الأمم المتحدة يوم الجمعة الماضي بعد ارتكاب الولايات المتحدة جريمة اغتيال قائد فيلق القدس الفريق قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس وعدد من رفاقهما المقاومين.
الأمم المتحدة رفضت الكشف عن موقفها القانوني من هذه الجريمة، لناحية كونها انتهاكاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، أم لا؟.. واكتفت بالقول إن أمينها العام أنطونيو غوتيريش «يجري مشاورات مكثفة مع أطراف عدة لاحتواء التصعيد»..أي إنها تعمل على النتائج وليس على الأسباب، كما ذكرنا سابقاً.
طبعاً، هذا لا يعني أن دولاً أخرى لا تتحمل مسؤولية الإجابة.. ولا نقصد هنا المعنى الحرفي لـ«الإجابة» بقدر ما نقصد من هو المسؤول، ولماذا تُوضع القوانين إذاً، ولماذا تتحدث الدول باسمها مادامت مُنتهكة وبلا جدوى؟!
استغلال وانتهاك المادة 51
قبل الإجابة، لنعرض بأي شكل ومضمون ورد «حق الدفاع عن النفس» في ميثاق الأمم المتحدة؟
منذ أحداث 11 أيلول 2001 والولايات المتحدة لا تكف عن استخدام عبارة «حق الدفاع عن النفس»، والمادة «51» من ميثاق الأمم المتحدة التي تستخدمها لتقوم بالحرب والضرب في أي مكان تريده وضد من تريده.. لقد وجدت في هذه المادة ضالتها لتعيد هندسة حروب جديدة في بداية ألفية جديدة برز فيها عالم موازٍ يُهدد هيمنتها، ولا تستطيع أن تواجهه إلا بإغراق هذا العالم الموازي معها في حروب لا تنتهي.
تنص المادة «51» على أنه «ليس في ميثاق الأمم المتحدة ما يُضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن نفسها إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد الأعضاء وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين.. والتدابير التي اتخذها الأعضاء باستعمال حق الدفاع عن النفس تُبلغ إلى المجلس فوراً، ولا تؤثر تلك التدابير في أي حال فيما للمجلس- بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمدة من أحكام هذا الميثاق- من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه».
ووضعت المادة «51» ثلاثة شروط لاستخدام حق الدفاع عن النفس:
أ ـ وجود حالة اعتداء مسلح، وهذا يعني وقوع هجوم مسلح فعلي حتى يثبت الحق في الدفاع، أما مجرد احتمال وقوع العدوان، فلا يسوّغ استخدام هذا الحق.
ب ـ أن تمارس الدولة المعتدى عليها حق الدفاع الشرعي إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين.
ج ـ خضوع حق الدفاع عن النفس لرقابة مجلس الأمن.
يُضاف إلى ما سبق أنه طبقاً للمادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة، فإن الحقوق الجوهرية التي يستتبع الاعتداء عليها نشوء حق الدفاع لحمايتها هي: حق سلامة إقليم الدولة، وحق الاستقلال السياسي لأي دولة.. وحق تقرير المصير.
وتشترط قواعد القانون الدولي لاستعمال حق الدفاع عن النفس، أن تكون القوة المستخدمة لرد الاعتداء متناسبة مع هذا الاعتداء، وفي حدود القدر الضروري لرده وإيقافه.
هذا يعني: – أن حالة الدفاع عن النفس المسموح بها وفق المادة «51» محصورة في تعرض دولة ما إلى هجوم مسلح من جانب دولة أخرى فقط. وهذا يعني أمرين: أن يكون الدفاع أثناء وقوع الـ«هجوم المسلح» وأن يكون المقصود منه هو الحفاظ على سلامة وسيادة البلد المعتدى عليه، وليس أن يكون الهدف عقابياً أو ردعياً لأحداث مستقبلية محتملة.
– أن حق الدفاع عن النفس لا يكون قبل وقوع الـ«هجوم المسلح» إذ إن أي استخدام للقوة العسكرية قبل وقوع الهجوم المسلح- على دولة ما- يعد اعتداءً غير مسوّغ.
الحروب والاغتيالات كـ «حق»
ولأن الشيء بالشيء يُذكر.. فإن إجازة الولايات المتحدة لنفسها ومن يتبعها من الدول التوسع في استخدام القوة العسكرية باسم الدفاع عن النفس يُعيد إلى الأذهان الفترة التي سبقت قيام الحرب العالمية الثانية، عندما كانت الدول تلجأ إلى استخدام القوة العسكرية من دون إعلان «حالة الحرب» وذلك للتحايل على ميثاق عصبة الأمم الذي نص في مواضع عدة على «تحريم اللجوء إلى الحرب» كوسيلة لحل النزاعات الدولية، ما قاد في نهاية المطاف إلى الحرب العالمية الثانية.
وكانت الأمم المتحدة – تفادياً لتكرار السيناريو نفسه – قد حرصت في ميثاقها على تجنب استخدام كلمة «الحرب» واستبدلتها بكلمة «استخدام القوة» ليصبح النص الأممي متضمناً تحريم استخدام القوة العسكرية لحل لنزاعات الدولية، لكن الدول استطاعت مرة أخرى أن تتحايل على هذا المنع بزعمها استخدام حق «الدفاع عن النفس» بموجب المادة «51» عند اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية.
ما سبق يُوصف بأنه قيود فُرضت على الدول لمنعها من الإفراط في استخدام القوة العسكرية، ولتقليص جغرافيا الحروب التي دمرت اثنتان منها في النصف الأول من القرن الماضي ثلاثة أرباع العالم.
أسئلة بلا أجوبة
هذا كلام جميل (ما ورد في المادة 51) لكنه من حيث التطبيق لا يعدو كونه كلاماً إنشائياً من دون إلزام، بل هو ترك الأبواب مفتوحة للدول بلا حساب ولا عقاب لتشن ما تشاء من الحروب والاعتداءات (وعندما نقول «دول»، فالجميع يعلم من هي الدول المقصودة وعلى رأسها الولايات المتحدة طبعاً).
منذ هجمات 11 أيلول 2001 بدا الجميع تقريباً وكأنه انضوى تحت سقف حق الولايات المتحدة في الدفاع عن نفسها، لذلك وجدناها توزع المهام على الدول بسهولة ويسر من دون اعتراض.. ومن دون تدخل من مجلس الأمن، وفي هذه الفترة (وحتى الآن) تصاعدت إلى الحد الأعلى اعتداءات الكيان الصهيوني حروباً واغتيالات وكله تحت سقف «حق الدفاع عن النفس»، وبدا أن هذا الحق حصري للولايات المتحدة ولهذا الكيان.. ولكن كيف يحق للولايات المتحدة أن تنتقل هكذا بين القارات، تغزو الدول وتشن الحروب وترتكب المجازر وجرائم الاغتيالات، ثم تدعي أنها «تدافع استباقياً» عن نفسها، ولماذا لا يحق للدول والشعوب التي تغزوها وتدمرها الولايات المتحدة أن تدافع استباقياً عن نفسها، وكيف يحق لكيان محتل غاصب أن يدعي «الحق في الدفاع عن النفس» ولا يحق لمن هو واقع تحت الاحتلال أن يدافع عن نفسه برغم أن هذا الحق مكفول له في ميثاق الأمم المتحدة؟
كلها أسئلة ليست برسم الإجابة، مادام هناك من يسعى لينزلق بعالمنا نحو حرب عالمية جديدة تعيده إلى قمة الهيمنة الدولية.

The post الدفاعُ عن المصالح على الطريقة الأمريكية.. حروبٌ واغتيالات appeared first on صحيفة تشرين.

Rea more
Posted from صحيفة تشرين
Thank you for reading the الدفاعُ عن المصالح على الطريقة الأمريكية.. حروبٌ واغتيالات on Syria News Kit If you want to spread this News please include links as Source, and if this News useful please bookmark this page in your web browser, by pressing Ctrl + D on your keyboard button, Or click the share button to place it on your profile.

Latest news:

  • المجلس الأعلى للتعليم التقاني يعيد فتح مواعيد تقديم طلبات تغيير القيد
  • ارتفاع سعر غرام الذهب 13 ألف ليرة في السوق المحلية‏
  • “نفحات جنوبية”… معرض تشكيلي بالسويداء ضمن احتفالية أيام الثقافة السورية
  • ضبط 130 كيساً من الدقيق والنخالة بقصد الإتجار بالدقيق التمويني في حلب
  • الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام: وقوع عدد من الإصابات جراء قصف العدو الإسرائيلي موقعاً للجيش اللبناني في العامرية جنوب صور
  • مساعدات إنسانية روسية لأهالي قرية سنديانة بريف اللاذقية
  • كيم: ضرورة تطوير الأسلحة والمعدات وفقاً لما تتطلبه البيئة الأمنية للبلاد
  • لاعب التايكوندو حمزة سلامة: مستوى مهاري لافت ونتائج متميزة محلياً وعالمياً
  • مرسومان بتحديد الـ 21 من كانون الأول القادم موعداً لإجراء انتخابات تشريعية لمقعدين شاغرين في دائرة دمشق وآخر في دائرة مناطق حلب
  • عراقجي: المقاومة في الميدان تتصدى للاعتداءات الإسرائيلية وهي التي تقرر مصير المنطقة
  • Related news :

    Note: Only a member of this blog may post a comment.