منذ القدم كان لمدينة حلب شأن كبير بفنون الموسيقا، إذ احتلت مساحة كبيرة من حياة أهلها وروادها، حتى إنها نالت بلا منازع لقب «عاصمة الموسيقى العربية»، بشهادات الكبار في علم الموسيقا وفن الطرب، لدرجة بات يقال إنه لا مُطرِب حقيقياً إن لم يتخرج من المدرسة الحلبية، ولعلَّ من أبرز ما امتازت به الموسيقا الحلبية هي القدود، والتي تُبنى نصوصها الغنائية على قَدِّ تراتيل كنسية ارتبط اسمها بالقس السرياني مار أفرام (306- 373 م) الذي يقال إنه كان يمارس هذا القالب خلال قداس الأحد في الكنيسة السريانية، والقد الحلبي، كما تشير الكثير من الدراسات، يوازي بشعره متانة شعر الموشح، لكنّه يفوقه بساطةً من حيث اللحن الذي لطالما يتكرر مع اختلاف مقاطع النص الشعري وأدواره.
نشأت القدود في مدينة حلب ونسبت إليها فسميت بالقدود الحلبية وساهمت بشكل كبير في المحافظة على التراث الموسيقي العربي، وساهم تغيير الموضوعات في انتشار أكبر لألحانها ما أدى إلى ثبات الألحان الأصيلة في الذاكرة الشعبية.
تغنى القدود في معظم دول الوطن العربي وفي سورية بشكل خاص كمدينة حمص ودمشق وإدلب ولكنها تنتشر بشكل أساسي في مدينة حلب حيث لها طقوسها وأماكنها الخاصة وتكاد لا تخلو مناسبة دينية أو دنيوية من هذا اللون الطربي.
ويشير الباحثون الموسيقيون إلى أن ثمة نوعين من القدود: الأول الشعبي هو منظومات غنائية متوارثة عن الأجداد، والقسم الأكبر منها لا يُعرف كاتبه أو ملحنه مثل أغاني «عموري» و«يا حنينة» و«برهو» و«ربيتك زغيرون» و«يا ميمتي»، ومنها ما هو معروف مثل «يا طيرة طيري يا حمامة» لأبي خليل القباني و«سيبوني يا ناس» لسيد درويش و«الفل والياسمين» من ألحان صبري الجريدي و«نويت أسيبك» للملحن كميل شمبير، أما النوع الثاني هو «القد الموشح» وعادة يكون مبنياً على نظام الموشح المعروف من حيث الشكل الفني، وما يميزه عن الموشح المتكامل، هو الصياغة اللحنية التي تُظهر النكهة المحلية التي ترتكز على الخصوصية في تناول النغمة الموسيقية.
تغنى القدود الحلبية ضمن حفلات الطرب وفي معظم المناسبات العامة والخاصة وحفلات الأعراس والأفراح والاحتفاء بالحجاج والمعتمرين وتقام أيضاً كنوع من السمر ويصبح الطرب في حد ذاته هدف الاحتفال. والسمر مرتبط بشكل لصيق بالثقافة الشعبية الحلبية، كما أن للقدود مقاصد دينية فهي تؤدى في منازل خاصة بقصد ديني أو في الجوامع لدى أتباع الطرق الصوفية المتعددة ومنها (القادرية، الرفاعية، النقشبندية، الدسوقية) وغيرها، حتى أصبحت حفلة الطرب الحلبية تحمل شهرة كبيرة عربية عالمياً، ولذلك بدأت تنظم حفلات للقدود والموشحات في عواصم أوروبية وفي مدن عربية بشكل متكرر، كما درجت العادة أن يغني مؤدي القدود أكثر من لون طربي في السهرة الواحدة، فمن الواجب أن يتقن أكثر من فن إضافة إلى قدرته على الارتجال والتفنن. ويطلق على حلب بيت الطرب أو بيت النغم فهي تضم العديد من الفنانين والمؤدين المتقنين لفنون الطرب العربي الأصيل والإنشاد من قدود وموشحات ومواويل وقصائد وأدوار وهذا ما يحتاجه مغني القدود.
وينتقل التراث الحلبي الموسيقي بالعموم ومنه القدود من جيل الى جيل مشافهة، وذلك حسب بعض الباحثين في التراث الموسيقي، فحتى مع ظهور الكتب والمعاهد المتخصصة، حافظ الحلبيون على نقل تراثهم الموسيقي بتلك الطريقة لاعتقادهم بأن الغناء فن سماعي لا يؤخذ إلا من فم المعلم حصراً، ولذلك وصل إليهم بحرفيته أو قريباً من الأصل، ولعل طرق الحفظ والتناقل كانت ومازالت تتم عن طريق التلقين المباشر، فإما أن يجتمع لدى الأستاذ مجموعة من الأصوات الواعدة فيأخذون النص مقطعاً إثر آخر مشفوعاً بإيقاعه بعد التعرف إلى مقامه، أو أن يتم بحضور المتلقي مرات متتالية لسماع مجموعة من النصوص اللحنية ثم يحاول غناءها وعندما يتأكد الحفظ ينضم إلى مجموعة المرددين إلى أن يصبح عضواً في فرقة الإنشاد ويبدأ طريقه الخاص.
ومن أمثلة القدود الحلبية: «تحت هودجها وتعانقنا.. صار ضرب سيوف يا ويل حالي». وهو مأخوذ من الأغنية الدينية التي تقول: «يا إمام الرسل يا سندي.. أنت باب الله معتمدي».. ولهذا غالباً ما يختلف كلام القدّ الواحد من بلد عربي إلى آخر، ذلك أن اللحن أثبت من الكلام، وتُغنى في كل بلد تبعاً للأسلوب الذي يتماشى مع أغانيه وطريقة غناء مطربيه.
لقد انتشرت القدود الحلبية بفضل مبدعي وفناني حلب إلى البلدان العربية، ومنهم الموسيقي الحلبي أحمد عقيل (1813-1903) وهو من رؤساء الذكر والمنشدين العريقين الذي لعب دوراً أساسياً في تعليم أبي خليل القباني ومارون النقاش الموسيقا، ما ساعدهما في تأسيس المسرح الغنائي الدرامي.
ومن أجمل قدود القباني «يا طيرة طيري يا حمامة.. وانزلي بدّمر والهامة». ومن موشحات عقيل التي اشتهرت: «يا ساكناً»، و«مائس الأعطاف»، و«نشيد الأيتام».
وأيضاًهناك العالم الموسيقي شاكر أفندي الحلبي الذي سافر إلى مصر سنة 1840، ونقل الموشحات الحلبية إليها من خلال عمله في تحفيظ المغنين المصريين الموشحات والقدود الحلبية، والذين برز منهم محمد عثمان وعبده الحامولي وسلامة حجازي.
وقد أسهم هذا العمل الذي قام به الحلبي في تأليف كتاب «الموسيقا الشرقية» لكامل الخلعي الذي ضمّ أكثر من مئتي موشح، وجميعها من خلال ما حفظه وتعلمه الموسيقيون والملحنون المصريون من الحلبي.
وكان السنباطي ومحمد عبد الوهاب وعازف الناي الشهير عزيز صادق، تلامذة لدى الشيخ الحلبي علي الدرويش (1884- 1952) العالم الموسيقي والملحن والعازف المختص بآلتي الناي والقانون، والذي علّم الموسيقا ثلاث سنوات في معهد الموسيقا في القاهرة حتى عام 1931.
كما أقام سيد درويش في حلب سنة 1912 مدة سنتين في بيت عمر البطش (1885-1950)، ملحن الموشحات الأول في حلب، ليتعلم عزف الألحان على العود حيث أتقن أصول العزف وكتابة النوتة الموسيقية، وبدأت موهبته الموسيقية تتفجر.
فموشحات البطش من أجمل ما عرفه فن الموشح العربي، ومنها: «يا عربيا»، «حسنك النشوان»، «يمر عجبا ويمضي»، «مبرقع الجمال» وغيرها. أيضاً كان الفنان الحلبي كميل شمبير يكتب النوتة لسيد درويش، وممن ساعده وعمل منشداً ومرتلاً دينياً الشيخ علي القصبجي وهو حلبي المولد ووالد ملحن مصر الأول أحمد القصبجي، والتاريخ ما زال يزيد في صفحاته الكثير عن فن القدود، ودور الموسيقا الحلبية وتأثيرها في الكثيرين على مستوى الوطن العربي.
The post «حلب» عاصمة الموسيقا العربية و«القدود» سفيرتها إلى العالم appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.