أطلق وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور في 2 تشرين الثاني 1917 وعده الباطل الذي أعرب فيه عن تعاطف بريطانيا مع أماني اليهود في إقامة «وطن قومي» لهم في فلسطين، واعداً إياهم ببذل الجهود الممكنة لتحقيق هذه الأمنية، وبعد قرابة الشهر من إطلاق هذا الوعد، احتلت بريطانيا فلسطين لتنفذ وعدها على حساب شعب مسالم آمن في وطنه منذ آلاف السنين.
لقد كان من نتاج هذا الوعد المشؤوم، خلق مأساة إنسانية عصفت بالشعب الفلسطيني، بدأت مع الموجات الأولى للغزو البشري اليهودي لفلسطين، واستمرت طوال الاحتلال البريطاني، ولم تنتهِ بطرد الشعب الفلسطيني من وطنه، ليحل مكانه آخرون قادمون من وراء البحار، وما زالت المأساة تتوارثها الأجيال الفلسطينية جيلاً بعد جيل، من دون أن يعبأ بمأساتهم من خلقها ودعمها وباركها، بل على العكس فقد أُلصقت بهذا الشعب الضحية صفة «الإرهاب»، بينما يبارك الشرق والغرب للإرهابيين الحقيقيين احتلالهم أرض فلسطين وطرد أصحابها الأصليين منها، والغريب كل الغرابة أن تهرول دول عربية لبناء علاقات تطبيعية مع هذا العدو الطامع في كل أرض العرب.
لقد عانى الشعب العربي الفلسطيني مرارة العيش خارج الوطن، وتحمل من بقي متمسكاً بأرضه عبء الاحتلال، ورغم قسوة الظروف المرافقة للعيش في الشتات، تمكّن هذا الشعب من تشكيل مجموعات فدائية مسلحة، تقاتل العدو المحتل لدحره عن أرضه فلسطين وعودة شعبها وأهلها لربوعها ورباها، وبذل الشعب الفلسطيني الغالي والنفيس، وجاد بالأرواح والمهج حتى لم يبق بيت إلا قدم شهيداً أو أكثر.
سار الكفاح المسلح الفلسطيني صعوداً بعد معركة الكرامة في غور الأردن 1968، وانحدر نزولاً بعد أيلول الأسود 1970، وانتهى به المطاف بعد عدوان 1982 على لبنان بتشتيت مقاتلي الثورة الفلسطينية إلى المنافي البعيدة. وسكت صوت البندقية الذي كان يحمل بشائر النصر، وعلا صوت المفاوض الفلسطيني الذي لم يجلب للفلسطينيين خيراً، فقد شُطبت عبارة «تحرير فلسطين» من الميثاق الوطني الفلسطيني، وجلب المفاوض الجنرال دايتون، الذي يسميه الفلسطينيون «لورانس فلسطين»، ليكون المنسق الأمني لجهاز الأمن الفلسطيني الذي حوَّل المقاتلين من مقاومين للاحتلال إلى حراس للمستوطنات، يقفون بوجه من يحاول قتال المحتل، وقدم المفاوض الفلسطيني الكثير من التنازلات من دون أن يحصل من العدو على تنازل واحد مهما قلّ شأنه.
لقد كان لوعد بلفور مقدمات سبقت وتداعيات لحقت، فالمقدمات بدأت عندما تسعر التنافس الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا اللتين كانتا تتسابقان للحصول على امتيازات في الهند، فوصلت بريطانيا بحراً، وعندما حاول نابليون بونابرت شقّ طريق بري من مصر إلى الهند عبر فلسطين وسورية، عجز عن فتح مدينة عكا الفلسطينية، فوجه نداءه الشهير ليهود فلسطين وسورية والعالم لمساعدته في إنجاح مشروعه لقاء مساعدتهم على إقامة «كيان سياسي» فعلي في فلسطين، يضمن لليهود «دولة مستقلة» كسائر الشعوب في العالم، لكن اليهود آنذاك لم يكونوا في وضع يسمح لهم بتقديم أي مساعدة لنابليون، ففشل المشروع الفرنسي.
لم يضع فشل نابليون حداً للأطماع الاستعمارية في فلسطين، بل على العكس فقد لفت نظر وزارة المستعمرات البريطانية لأهمية فلسطين في منع فرنسا من تنفيذ مشروعها البري إلى الهند، وفي الوقت ذاته يقف احتلال فلسطين عائقاً في وجه أي محاولة وحدوية بين مصر وسورية، ويمنعهما من تشكيل قوة إقليمية تتصدى للمشاريع الاستعمارية، على غرار ما فعله محمد علي باشا عام 1841 في حملته على بلاد الشام، وما زاد من أهمية فلسطين شق قناة السويس التي حظيت بأهمية استراتيجية بريطانية، ولاسيما بعد شرائها أسهم مصر في القناة وتولي إدارتها، وبروز الحاجة لقاعدة عسكرية قريبة من القناة للدفاع عن استثمارات بريطانيا فيها، فشرعت بتشجيع اليهود لاستيطان فلسطين، والتأكيد على أنها المكان الأفضل.
على صعيد آخر، قرر بعض اليهود الأوروبيين الاندماج في مجتمعاتهم الأوروبية تخلصاً من الاضطهاد، وشكلوا لهذه الغاية منظمة سميت «هسكلا» وتعني الاندماج، لكن رسالة نابليون ألهبت مشاعر اليهود في كل مكان، وأشعلت فتيل الرغبة في «دولة يهودية» خاصة بهم في فلسطين أو أي مكان آخر، فأنشؤوا مستوطنات في أماكن عدة من العالم، وبذلوا محاولات مضنية للحصول على ترخيص من بريطانيا أو العثمانيين لإقامة «دولة» على أي بقعة من الأرض تُعطى لهم.
في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهي ذروة البحث عن «وطن قومي» لليهود، شملت محاولات الاستيطان كل من الأرجنتين وكندا والمكسيك والبرازيل والولايات المتحدة وفشلت هذه المحاولات لأن اليهود كانوا يريدون أرضاً شاسعة متصلة لإقامة «الدولة» عليها، وقد استشعر رؤساء تلك الدول الخطر القادم مع اليهود، فتم رفض بيع المزيد من الأراضي لهم وتوقف المشروع حيث وصل.
وفي إفريقيا حاول اليهود الاستيطان في أوغندا وأنغولا وكينيا والعريش (سيناء) وليبيا، لكنها فشلت أيضاً لأسباب تتعلق بكل منطقة، فوسط إفريقيا لا يشكل إغراءً لليهود الأوروبيين، يدفعهم لترك أوطانهم والعيش في بلاد يعشش فيها المرض والحرارة المرتفعة، أما شمال إفريقيا فيعاني شح المياه وندرتها ولاسيما شبه جزيرة سيناء.
حتى أستراليا لم تكن بعيدة عن محاولات استيطانها وقد فشل الاستيطان فيها لأن حكومة أستراليا رفضت إعطاء المستوطنين اليهود حكماً ذاتياً على الأرض التي يتم استيطانها، كما طُرحت العراق للاستيطان، لكن شبح بابل ومشاعر البؤس والهوان اللذين لقيهما اليهود الأوائل خلال السبي الأول والثاني والمستقرة في الذاكرة الجمعية لليهود سببت رفض المقترح، وكان الخيار الأخير للاستيطان هو فلسطين الذي شجعته بريطانيا بشدة خدمة لمصالحها الاستعمارية، وثبتت موقفها المؤيد للاستيطان بها رسمياً بصدور وعد بلفور اللامشروع عام 1917.
كانت تلك هي المقدمات التي سبقت وعد بلفور، أما التداعيات الناجمة عن هذا الوعد الجائر، فهي كثيرة جداً، دفعت بمجملها بريطانيا لاحتلال فلسطين وخلق الظروف الملائمة لإقامة الكيان الصهيوني على أرضها بعد طرد أبنائها… وبمساعدة الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، نجح هذا الكيان في تكريس نفسه كقوة «متفوقة» من خلال اعتداءاته المستمرة على الدول العربية المحيطة بفلسطين.
ومن خلال الضغوط الغربية أيضاً على بعض الدول العربية التي تسبح في الفلك الأمريكي، طبَّعت تلك الدول علاقاتها مع هذا الكيان الغاصب، وبدأت أصوات نشاز في بلاد العرب تسوِّق «الاعتراف بالأمر الواقع» لتبرير خيانتها، وأصوات أخرى تروج للتعاون الاقتصادي مع هذا الكيان، وأخرى محبطة للنفوس من خلال المبالغة «بقوة» هذا العدو وزعمها بـ«استحالة» الانتصار عليه، وغير ذلك الكثير، وكلها تصب في خدمة الكيان الصهيوني.
واليوم، بعد مئة عام على وعد بلفور المشؤوم، وسبعين عاماً على نكبة فلسطين، وخمسين عاماً على هزيمة حزيران، وسبع سنوات على مأساة «الربيع العربي» الذي أوصل أمة العرب إلى أسوأ حالاتها، وفي ذروة انشغال الجيوش العربية بمحاربة التنظيمات الإرهابية التكفيرية، وبعد تحقيق انتصارات ميدانية مهمة في سورية والعراق توحي باقتراب هزيمة الإرهاب بشكل نهائي، يفاجئنا عملاء الغرب والكيان الصهيوني بنياتهم زرع كيان انفصالي عنصري في شمال العراق، يقتطع من أرض العرب بقعة غالية، تَسلخ عنها عروبتها وتُجردها من هويتها، ليقوم مكانها كيان إثني طائفي انعزالي انفصالي، على غرار الكيان الصهيوني الذي قام على أرض فلسطين بذرائع مختلقة لتبرير زرع هذا الكيان الوظيفي الخادم للمصالح الغربية في المنطقة العربية.
لقد حاول الانفصاليون في شمال العراق إضفاء «الشرعية» على جريمتهم متذرعين بـ «حق تقرير المصير للشعوب»، ومتخذين من استفتاءٍ صوري بعيد عن الشرعية غطاءً لفعلتهم، فالاستفتاء تم من طرف واحد ومن دون موافقة الحكومة المركزية في بغداد، وكأن الانفصاليين أرادوا إرسال إشارات بأن الانفصال أصبح أمراً واقعاً حتى قبل بدء الاستفتاء.
وإزاء رفض الاستفتاء ونتائجه من الدول المجاورة لكردستان، وتطابق الموقف الدولي معها – ولو بصورة ظاهرية – عدا الكيان الصهيوني المؤيد له ومغذيه وداعمه، يحاول الانفصاليون في أربيل إقناع الشارع الكردي بأن استفتاء الانفصال لن يؤدي لتحركات إقليمية أو دولية على الأرض ضد حكومة إقليم كردستان المحلية، وأن ردود الفعل ستقتصر على الإعلام فقط، وأن الأمر سيفضي بعد حين إلى اعتراف دولي بالأمر الواقع وينتهي كل شيء… تأتي هذه التطمينات كمحاولة لتهدئة الشارع وإضفاء «المشروعية» على هذا الإجراء اللاشرعي المتعارض مع دستور الدولة العراقية المركزية وسيادتها على كل أراضيها.
بعد الاستفتاء الذي أيد فكرة الانفصال عن العراق من طرف واحد حسب الإعلان، علت أصوات كردية معارضة لهذا الانفصال الذي يحاول مسعود البرزاني أن يسوقه على أنه «الاستقلال»، وفي هذا مغالطة كبيرة توحي بأن إقليم كردستان كان «مستعمراً» من العراق وليس جزءاً من جغرافيته الوطنية، وهذا يذكرنا بالأمر ذاته حين زعم الصهاينة أن الخامس عشر من أيار 1948 وهو يوم اغتصاب فلسطين على أنه «يوم الاستقلال»، فعن أي «مستعمر» استقلوا؟!!.
لقد استشرف المستقبل بعض السياسيين من الأكراد، فوجدوا أن انفصال إقليم كردستان لن يجلب لأبناء الإقليم إلا الويلات، ومن هؤلاء السياسي الكردي برهم صالح القيادي السابق في حزب طالباني حين قال: إن القرار السليم والحكيم كي ينعم أبناء إقليم كردستان بالاستقرار والرفاه هو قرار الحوار مع بغداد والدول المجاورة والمجتمع الدولي، وإن انفصال كردستان عن الدولة الأم (العراق) لن يتحمل تبعاته القاسية هذا الجيل فحسب، بل ستمتد آثاره المأسوية إلى الأجيال القادمة، وربما كانت التبعات أكبر من قدرة سكان الإقليم على تحملها.
وثمة أصوات أخرى علت لتقول: إن للبرزاني حلماً واحداً هو البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، ويرى أن الفرصة التاريخية للانفصال أصبحت مهيأة بعد المتغيرات والصراعات على المنطقة والوهن الذي أصاب الدولة العراقية بسبب صراعها الطويل مع مفرزات الاحتلال الأمريكي، وتنظيم «داعش» الإرهابي.
والحقيقة التي لا مناص من ذكرها، هي أن التشابه في ظروف نشأة الكيانين الاستيطاني في فلسطين والانفصالي في شمال العراق، واستغلالهما ظروف ما بعد الحرب من أجل فرض الأمر الواقع، والاعتماد على الدعم الخارجي لتكريس الكيان، واختيار توقيتات غير ملائمة عربياً لزرع كيانات عنصرية على أرض العرب، يوحي بشكل مؤكد بتشابه الأدوار والوظائف، التي تعود بالفائدة أولاً و آخراً على الاحتلال الصهيوني، والدليل على ذلك رفع الأعلام «الإسرائيلية» في أربيل، يقابله الموقف العلني للمسؤولين الصهاينة المؤيدين للاستفتاء والانفصال، والرامي لخلق بؤرة استنزاف للجهود والطاقات العراقية، وهذا يصب في مصلحة الكيان الصهيوني، رغم أنه يجلب المتاعب والويلات لأبناء الإقليم التي لا بُرء منها إلا بتخلي هذا الكيان عن تمسكه بالانفصال عن الدولة الأم، دولة العراق.
The post مئة عام على «وعد بلفور».. تكريس لكيان استيطاني عنصري في فلسطين ومحاولة زرع كيان انفصالي عنصري في شمال العراق appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.