يجدر بنا إعادة النظر بتجارب الحوار الديني في ضوء ما أنجزته من مكتسبات من جهة, ومراجعة العوامل والتحديات التي أجهضت آمالنا في استئناف الحوار على قاعدة التعاون والتكامل بين أواصرنا الحية من جهة ثانية, وأراني أزعم أن أول ما لفتني من هذه العوامل والتحديات هو اصطدام التجارب الحوارية بحركات الاستثمار السياسي للدين وإصرارها – أي تلك الحركات – في ماضيها وحاضرها على تغذية الكيانات المذهبية والطائفية وتأجيج انقساماتها على نحو لا يسمح باستيلاد أي مشروع للتوحيد والتقريب يقوم على قيم التكامل وما يتصل به من روافع النهوض والإصلاح المرتجى على عين الله ورضاه.
وما لفتني من قضايا الحوار ومشكلاته أن الباحث لا يمكنه دراسة الأسباب الموضوعية لفشل التجارب الحوارية وإخفاقها بمعزل عن المناخ السياسي القاتم وما لابسه في القرن الماضي من آثار ضرب الوحدة العربية وتمزيق أوصالها بدءاً من فاجعة احتلال فلسطين واغتصابها عنوة مروراً بتعطيل أفكار النهضة والانقضاض عليها بجر النخب الثقافية والدينية والسياسية إلى ملاعب الصراع بين تناقضاتها الداخلية وصولاً إلى إسقاط كل محاولة لإصلاح الواقع البائس بما في ذلك إصلاح المشهد الديني المتوتر بجهالاته وعصبياته المنغلقة منذ تقسيمات – سايكس بيكو – وحتى اللحظة الدموية الراهنة.
وإذاً لا نملك الآن في مدى ما نكابده من تحولات التمزق والضياع إلا أن نعيد النظر بتجارب الحوار الديني من منظور مقاربتها هذه المرة بوصفها جزءاً لا يتجزأ من منظومة قيامتنا العربية الواعدة وذلك انطلاقاً من وجوب الدعوة إلى تصحيح علاقات النخب بعضها مع بعض وإعادة بنائها على مرصوص الوعي المشترك بأخطار الاحتلال والتقسيم وجاهليات الاستبداد الديني والسياسي .
وفي مواجهة هذا التحدي نتطلع اليوم إلى مشروع استراتيجي شامل لا يفصل هذه الأخطار عن بعضها ولا يتجاهل تعقيدات المسألة الدينية وإشكالاتها في شرقنا ولاسيما بعد حصاد النتائج التي آلت إليها ظواهر القطيعة والتطرف والعنف المتوحش باسم الدين, ولا أستثني أحداً لأنها ظواهر نشأت في أرضنا وترعرعت بين أحضاننا بفعل إهمالنا وتجاهلنا عوامل وأسباب التخلف والأمية والاستغلال السياسي للدين وصلتها مجتمعة بأخطار الاحتلال والتقسيم والاستبداد.
ولا حل لمعضلات التراجع العربي عن مواجهة هذه الأخطار من دون مراجعة نقدية لا تستثني جنايات الفكر السياسي عن خطايا وجرائم الحركات التكفيرية, وفي ذلك لم يعد من الجائز رفع شعار الأولويات عند كل مقترح لمعالجة مشكلاتنا الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المركبة لأن واقعنا المظلم بانتحاراته الحضارية لا يكاد يحتمل شيئاً من هذا الترتيب إلا وفق رؤية ترى في أزماتنا كلها أولوية يلازم بعضها بعضاً من جميع جهات الخطر, وقد آن لنا أن نعترف بأن منطق ترتيب الأولويات الذي طرحناه في القرن الماضي قد ساهم من حيث نشعر أو لا نشعر في تكريس ظاهرة التجزئة والانقسام بين قضايانا العربية وهمومها تحت شعار معالجتها بذهنية فصل المهم عن الأهم وتقديم الأهداف الكبيرة على أهدافنا الصغيرة من دون أن نلتفت إلى أن الأهداف كلها كبيرة في حساب الهندسة والبناء.
وعندي لا أولوية في الراهن المعاصر إلا أن نبدأ الخطوة الأولى لاستنهاض مشروعنا المتجدد بقدسية الاعتراف بحقائق التنوع والتعدد ونواظم سلامنا الناهض بثقافة التعاون والتكامل فلا نكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا, والخطاب موجه إلى إيقاظ شعورنا بمعنى الانتماء ومعنى أن نكون أمة واحدة.
وبكلمة, إذا كانت أمتنا الجريحة بكامل تياراتها وحركاتها ومكوناتها الثقافية والدينية والسياسية قد وصلت إلى نهاية النفق المسدود, فإن أخطر ما انتهى إليه هذا الانسداد هو اشتعالات الفتن الدينية ونزاعاتها التي أفضت بعواصمنا لا إلى قصف مشاريع الإصلاح والنهوض وبناء الدولة الحديثة فحسب, بل إلى تدمير الجانب الاستراتيجي من مقومات الأمن والقوة والمناعة الأمر الذي يؤكد أكثر من أي وقت مضى أهمية خيار الوحدة والتكامل والتعاون على البر والتقوى بمنهاج الحوار باعتباره الوسيلة الوحيدة لاستنهاض مشروعنا الحضاري فلا يكتب على ضريح نهايتنا خرج العرب من التاريخ – خرج العرب من الحضارة – وماتوا ميتةً جاهلية.
The post آفاق.. الاستغلال الديني للسياسة appeared first on صحيفة تشرين.
Rea morePosted from صحيفة تشرين
Note: Only a member of this blog may post a comment.